شكلت أحداث «الأحد الأسود» في البرازيل محطة حاسمة في تاريخ ذلك البلد اللاتيني، الذي يتحسس طريقه لاستعادة الاستقرار الداخلي، وسط تحديات متفاقمة تواجه الرئيس لولا دا سيلفا، في ولايته الثالثة، على المستويين الداخلي والخارجي.
ويُنظر إلى الأزمة الداخلية، التي تعاني منها البرازيل باعتبارها أم التحديات المفصلية، في ضوء مجتمع، تتقاذفه تكتلات حادة، بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وسط انقسامات، عبرت عن مدى خطورتها أحداث الأحد الماضي، عندما هاجم معارضون للرئيس دا سيلفا مقرات الرئاسة والكونغرس والمحكمة العليا، وما صاحب ذلك من أعمال شغب واسعة، وصفتها تقارير محلية بكونها أعمالاً إرهابية غير مسبوقة.
وفي ظل الإجراءات السريعة، التي تم اتخاذها للسيطرة على الأوضاع الداخلية، ومع فرض حالة الطوارئ، وفتح تحقيقات واسعة حول كواليس الحادث، الذي يتورط فيه مسؤولون موالون للرئيس السابق جايير بولسونارو بالمؤسسات الرسمية، تفرض جملة من السيناريوهات المتباينة نفسها على المشهد الداخلي، الذي يحتدم فيه الصراع بين اليمين واليسار.
عن تلك السيناريوهات يقدم محللون سياسيون مقيمون في البرازيل لـ«البيان» قراءات مختلفة لمآلات المشهد في البرازيل، في ضوء تعقيداته المذكورة.
مستقبل الأوضاع الداخلية
بداية، وفي قراءة للأحداث الأخيرة، وتبعاتها على البرازيل، يقول مدير مرصد أمريكا اللاتينية محسن منجيد لـ«البيان»: إن الأحداث، التي عرفتها برازيليا يوم الأحد الماضي تحيل بشكل أساسي على مشاهد الانقلابات، من خلال تهديد عمل المؤسسات الدستورية الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ويضيف: يظهر أن المتظاهرين المناصرين، الذين ينتمون للرئيس السابق جايير بولسونارو لم يجدوا دعماً من طرف باقي التوجهات السياسية في البلاد، ولربما كانوا ينتظرون تدخل جهات أخرى أمنية أو عسكرية لدعمهم، لكن لم تتوسع التظاهرات، وبقيت بالحجم نفسه، الذي انطلقت به إلى نهايتها.
ويعتبر منجيد أن هذه الأحداث غير مسبوقة، وتهدد استقرار البلاد، كما تعيد إلى الواجهة مسلسل العنف، الذي طبع حملة الانتخابات الرئاسية، التي جرت العام الماضي، وتذكر كذلك بما حصل في يناير 2021 عندما حاول المتظاهرون المناصرون للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اقتحام مقر الكونغرس الأمريكي، لكن التظاهرات في برازيليا كانت أكبر من نظيراتها في واشنطن.
وفي هذا الإطار فإن التحدي الأبرز للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا على مستوى الجبهة الداخلية هو ضمان الاشتغال في إطار ديمقراطي مستقر، فالعشرون سنة الأخيرة تميزت بحركة من عدم الاستقرار في البلاد، ولا شك في أن ما حدث يوم الأحد يحتاج إلى تعبئة وطنية وتوحيد الصف الداخلي، خصوصاً أن الرئيس السابق بولسونارو، الذي يوجد خارج البلاد سيجد نفسه أكثر عزلة، بعد فشل هذه التظاهرات، التي دعمها من الخارج.
ويشير منجيد إلى أنه لا أحد ينازع في أن التجربة السابقة والغنية للرئيس لولا دا سيلفا على رأس البلاد لولايتين متتاليتين ستكون مفيدة في تدبير دواليب الحكم، ويمكن أن تشكل هذه الأحداث فرصة أمامه لأخذ زمام الأمور، مع اتخاذ كل التدبير اللازمة لضمان استمرار عمل السلطات الثلاث.
وهي فرصة كذلك لتوحيد الشعب، وتفادي التفكك الاجتماعي والشعور بالإقصاء، كما أن التعامل مع المتظاهرين الذين تم إلقاء القبض عليهم في أحداث يوم الأحد يجب أن تكون وفق القوانين لكيلا تعتبر تصفية حسابات أو تكون شبيهة بالزيت، الذي يصب على النار.
استقطاب
ويشدد مدير مرصد أمريكا اللاتينية على أن الرئيس لولا مدعو إلى استقطاب النخب السياسية لدعم الاستقرار، والعمل من داخل المؤسسات الديمقراطية، وفي السياق نفسه تقوية تحالفاته السياسية داخل غرفتي البرلمان البرازيلي، لتنزيل مشاريعه التنموية.
ويختتم قراءته بقوله: إنه الرئيس لولا دا سيلفا يدخل ولاية رئاسية ثالثة، في ظل ظرفية مختلفة عن الولايتين السابقتين، ويظهر أن تقوية التماسك الداخلي سيقدم له دعماً، من أجل تبني سياسة خارجية نشيطة، تعيد البرازيل إلى الساحة الدولية قوة إقليمية مأثرة في منطقة أمريكا اللاتينية، وقوة صاعدة فاعلة داخل الفضاءات الدولية المتعددة الأطراف.
اليمين وبولسونارو
وفي قراءة أخرى لتبعات الأحداث الأخيرة يشير الكاتب والباحث السياسي من البرازيل بلال رامز بكري إلى أن «هذه الأحداث كانت أحداثاً مفاجئة في توقيتها وليس في مجرياتها».
منذ مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية كانت هناك تنبؤات عن إمكانية حدوث سيناريو شبيه، بما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية إبان فوز جو بايدن على دونالد ترامب، لكن مع مرور مراسم تنصيب الرئيس لولا مطلع العام، على خير، وما تبع ذلك من سير عادي للعملية الديمقراطية رغم بعض تجمعات أنصار الرئيس السابق، فإن كل هذا لم يكن يوحي بأن شيئاً ما سيحدث، لذلك فإن الكثير من المراقبين تفاجأوا وأسقطوا ما في أيديهم عندما شاهدوا مشاهد الاقتحامات.
توحيد مؤسسات الدولة
ويتابع في قراءته للأحداث في تصريحات خاصة لـ«البيان»، موضحاً أن هذه الأحداث جاءت لتوحد مؤسسات الدولة حول الرئيس لولا دا سيلفا، وتعطيه زخماً كبيراً وتأييداً واسعاً، بالأخص أنها قد أحرجت النخب الداعمة لليمين، وأثبتت أن كل ما كان يتم التحذير منه لم يكن مبالغاً فيه، بالأخص إذا أخذنا بعين الاعتبار تواطؤ سلطات المقاطعة الفيدرالية من حاكم ولاية برازيليا، الذي تمت إقالته، وكذا مسؤول الأمن في المقاطعة، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف، وقد تعاطت الحكومة الفيدرالية بحزم وسرعة مع هذه الأحداث، وتوقيف مئات الأشخاص.
ويختتم قراءاته الأولية لمآلات الأحداث، بقوله: إن اليمين الذي قام بالهجوم، ربما انتصر تكتيكاً في هذه العملية، باعتبار أن هذه المواقع، التي تم اقتحامها في الدولة تمثل معقل السلطة، إلا أنه قد خسر استراتيجياً الكثير، ومن الآن فصاعداً سينحصر تأثيره شيئاً فشيئاً، ولن يكون له أي دور يعتد به.
سيناريوهات متفاوتة
من جانبه، يشير خبير العلاقات الدولية من ساو باولو، حسان الزين، في تصريحات خاصة لـ«البيان» حول أحداث «الأحد الأسود» في البرازيل إلى مجموعة من السيناريوهات المتباينة، التي تنتظر هذا البلد اللاتيني.
واحد من بين أبرز السيناريوهات، التي يعول عليها شعب البرازيل، بعد استتباب الأمن داخل البرازيل نسبياً في أعقاب الأحداث، هو أن يشهد نوعاً من الاستقرار الأمني، لا سيما في ضوء الإجراءات الأخيرة، ومع القرار الرئاسي بفرض حالة الطوارئ بالبلاد.
يدعم ذلك السيناريو الإجماع الحادث في البرازيل من قبل حكام الولايات، ومختلف السياسيين، ممن استنكروا الأحداث الأخيرة. وطبقاً للزين فإنه وفق هذا السيناريو يمكن أن يتحول مناصرو بولسونارو بما يشكلونه من كتلة سياسية كبيرة إلى تجنب المعارك الأمنية.
بينما يتحدث الزين عن سيناريو آخر يعتقد بأنه الأكثر توقعاً، وهو السيناريو المرتبط بمعاودة أنصار الرئيس السابق الكرة في مناطق أخرى في برازيليا، مردفاً: «هذا أمر متوقع.. الأمور من المرجح أن تسير في موجات من المد والجزر في هذا الواقع السياسي المتأزم والمتشابك، الذين يظهر فيه الرئيس لولا دا سيلفا في مواجهة كتلة من أهم الكتل الانتخابية الصلبة، والتي تهدد بعدم الاستقرار في البلاد».
10/01/2023
https://www.albayan.ae/world/global/2023-01-10-1.4595528