قبل نحو عام ونصف عام على الاستحقاقات الانتخابية في البرازيل، سواء الرئاسية أو انتخابات الكونغرس ومجالس الولايات، باشر الرئيس جايير بولسونارو حملة مريبة، عبر إجرائه سلسلة تعديلات وزارية، دفعت قادة عسكريين إلى الخروج من ظلاله. وفي الطريق إلى انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2022، يُدرك بولسونارو أن أخطاءه العديدة دفعته إلى حافة الهاوية في برازيليا، فسعى إلى محاولة إحكام قبضته على السلطة، مع تنامي موجة الغضب ضده من جهة، وعودة الرئيس الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا "لولا" إلى الواجهة من جديد، بعد تبرئته قضائياً من جهة أخرى. الحدث البرازيلي تُوّج مع إعلان وزارة الدفاع البرازيلية، مساء أول من أمس الثلاثاء، استقالة قائد الجيش إيدسون بوغول، وقائد القوات البحرية أليكس باربوزا، وقائد القوات الجوية موريتي بيرمودي، بعد يوم واحد من إعلان وزير الدفاع فرناندو أزيفيدو إي سيلفا تركه منصبه، بشكل غير متوقع. وهي استقالات تحصل للمرة الأولى منذ عام 1985، تاريخ انتهاء الحكم العسكري في البرازيل، الذي كان قد بدأ بانقلاب على السلطة عام 1964.
لكن النبأ لا يتعلق بنوعية الاستقالات فحسب، بل بإعلان إي سيلفا، في رسالة مقتضبة لتبرير استقالته، أنه "حافظ خلال قيادته على القوات المسلحة، وفق ما يمليه الدستور"، من دون توضيح مزيد من التفاصيل عن أسباب مغادرته للمنصب. لكن وسائل إعلام برازيلية ذكرت أن وزير الدفاع أُجبر على الاستقالة وسط ضغوط من بولسونارو. وذكرت صحيفة "فولبا دي ساو باولو" أنه "للمرة الأولى في التاريخ، قدم قادة الأفرع الثلاثة للقوات المسلحة استقالة جماعية بسبب خلاف مع الرئيس".
وفي تفاصيل التعديلات، استبدل بولسونارو إي سيلفا بالجنرال والتر سوزا براغا نيتو، الذي كان كبير موظفي الرئاسة، وجعل من الجنرال لويس إدواردو راموس خلفاً للأخير. كذلك، أقال الرئيس البرازيلي وزير الخارجية إرنستو أروجو، معيناً مكانه كارلوس فرانكا. وعيّن قائد الشرطة أندرسون توريس وزيراً للعدل، خلفاً لأندري ميندونكا. ويأتي هذا التعديل الوزاري بعد أسبوعين على إقالة وزير الصحة، الجنرال إدواردو بازويلو، وتعيين الطبيب مارسيلو كيروغا خلفاً له، الذي بات رابع وزير صحة منذ تولي بولسونارو الرئاسة.
وإذا كان رحيل أروجو من الحكومة متوقعاً بسبب تحميله من قبل كثيرين مسؤولية الإخفاقات التي مُنيت بها الاستراتيجية الحكومية لمكافحة فيروس كورونا، الذي أودى بحياة ما يقرب من 314 ألف شخص في البرازيل، فإن التغييرات الوزارية الأخرى فاجأت المراقبين. واتُّهم أروجو بعزل البرازيل على الساحة الدولية ووضع البلاد في وضع سيئ في ما يتعلق بشراء اللقاحات. كذلك قدم النائب العام خوسيه ليفي استقالته للرئيس، وذكرت وكالة "بلومبيرغ" للأنباء أن "من بين أسباب الاستقالة، قرار ليفي عدم التوقيع على الإجراء الذي اقترحه بولسونارو في المحكمة العليا ضد حكام الولايات".
وتُنبئ هذه التعديلات ببروز مرحلة صعبة في البرازيل، خصوصاً مع إشارات من بولسونارو تكررت أكثر من مرة حول الاستعانة بالجيش، وهو ما ألمح إليه وزير الدفاع المستقيل في رسالته حول "التمسك بالدستور". فالدستور البرازيلي، الصادر عام 1988، نشأ كردة فعل على الحكم العسكري في برازيليا، وبنوده حدّت من قدرة الدولة على المساس بالحريات العامة وضمان الحقوق الفردية.
وجعل الدستور من ارتكاب جرائم التعذيب والأعمال الموجهة ضد الدولة الديمقراطية والنظام الدستوري، جرائم لا يُفرج عن مرتكبها بكفالة ولا تسقط بالتقادم، خلافاً للمنطق الاستبدادي للدستور السابق، وهو الأمر الذي أدى إلى إنشاء أجهزة دستورية تمنع وقوع أيّ نوع من الانقلابات. كذلك نصّ الدستور على إجراء استفتاءات عامة تسمح للمواطنين باقتراح قوانين جديدة، في سياق التشاركية بين السلطة والشعب. يُظهر ذلك أن قدرة الجيش، الذي كان حاكماً بمفرده بين عامي 1964 و1985، باتت محدودة. وبعد أن اعتادت شوارع ريو دي جانيرو، وساو باولو خصوصاً، حيث الكثافة السكانية الأعلى في البرازيل، تغلغل الجنود في الحياة اليومية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته، تحوّلت الأمور بعد عام 1985 إلى تكريس بقاء العسكر في الثكنات بموجب الدستور.
لكن بولسونارو يحتاج للجيش لاعتبارات عدة، بعد تدهور شعبيته بشكل متسارع، إثر وصوله إلى الرئاسة عام 2018 على "جثث سياسية" عدة، تحديداً الرؤساء السابقين لولا وديلما روسيف وميشال تامر، مستغلاً موجة يمينية متطرفة أرساها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عالمياً، الذي تبجّح الرئيس البرازيلي مراراً بصداقته معه. لكن شعبية بولسونارو لم تدم طويلاً، وبدا جلياً أن انتخابه لم يكن ترفاً، بل لنقص الخيارات السياسية لدى الناخبين البرازيليين ولحالة الإحباط التي استولدتها فضيحة "مغسل السيارات"، وهي فضيحة باشر القاضي سيرجيو مورو بالتحقيق فيها عام 2014، مظهراً تورّط شركة "بتروبراس" النفطية، أكبر شركة من نوعها في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، في عملية فساد ضخمة، عبر تمويل سياسيين وأحزاب وقضاة ومصرفيين.
وأدت هذه القضية إلى الحكم عام 2018 بالسجن 12 عاماً على لولا بتهمة الفساد وغسل الأموال، لكن المعطيات تبدلت منذ نحو عامين. في أغسطس/ آب 2019، حاول بولسونارو تعيين قائد جديد للشرطة، من دون المرور بوزير العدل، الذي كان مورو بالذات، ما أدى إلى صدام بين الجانبين، دفع مورو إلى التنحّي. واتهم القاضي الأشهر في البرازيل الرئيس بمحاولة السيطرة على الأجهزة الأمنية وتعيين شخصيات تمدّه بتقارير مخابراتية.
وخلال هذه المرحلة، كان وكلاء لولا قد تقدموا بطلب استئناف لحكم عام 2018، فخرج الرئيس الأسبق من السجن عام 2019، ثم نجح في الحصول على قرار بتبرئته مطلع الشهر الماضي، من قاضي المحكمة العليا، إيدسون فاشين. وذكر القاضي في بيان، أنه لم يكن لمحكمة مدينة كوريتيبا الجنوبية، الحق في محاكمة لولا في قضايا كان يجب أن تنظر فيها المحكمة الفيدرالية في العاصمة برازيليا. الأهم أن استطلاع "بودرداتا" البرازيلي، الذي استُفتي فيه 3500 شخص بين 15 مارس/ آذار الماضي و17 منه، أظهر تقدم لولا بنسبة 34 في المائة مقابل 30 في المائة لبولسونارو.
01/04/2021
https://www.alaraby.co.uk/