مع استمرار توغل الصين في دول أميركا اللاتينية خاصة الأرجنتين، وتحولها إلى جبهة رئيسة للتنافس على النفوذ مع الولايات المتحدة، رأت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، أنه يجب إصلاح الاستراتيجية الأمريكية تجاه القارة اللاتينية، قبل فوات الأوان.
وقالت المجلة، إن القمة التاسعة للأمريكتين، التي من المقرر أن تستضيفها الولايات المتحدة أوائل يونيو المقبل، تتشكل لتكون كارثة لا يمكن التخفيف من حدتها، بعد قرار واشنطن استبعاد فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا منها، والتقارب الأرجنتيني الصيني.
وذكرت المجلة أنه في مواجهة تهديدات المقاطعة من قِبل القادة الإقليميين الرئيسين، يجد البيت الأبيض صعوبة في تحديد هوية الحركة السياسية الجارية لأمريكا اللاتينية، التي تتسم بموجة كراهية متزايدة للولايات المتحدة، تزامنًا مع الاستثمارات الصينية المستمرة والمتدفقة إلى المنطقة.
الصين والأمريكتين
وذكرت "فورين بوليسي" أن إدارة بايدن لم تقدم إجابة شاملة عن الوجود الصيني في الأمريكتين، مشيرة إلى أن وثيقة استراتيجية الأمن القومي السرية، لم تتضمن هذا المفهوم.
ونقلت عن مسؤول كبير -لم يذكر اسمه- في مجلس الأمن القومي تأكيده أن "كلمة" الصين "غير مذكورة في الجزء الخاص بقسم نصف الكرة الغربي" بالوثيقة.
وحسب المجلة، تُعد الأرجنتين مثالاً بارزًا على كيفية تحول أمريكا اللاتينية شرقًا لحاجاتها الاقتصادية والتنموية، متوقعة أن تنحصر في مسار محوره الصين لسنوات مقبلة.
وأشارت إلى أنه في فبراير الماضي، أصبحت بوينس آيرس -أكبر شريك اقتصادي لبكين في المنطقة- أحدث عضو في مبادرة الحزام والطريق الصينية، لافتة إلى أن هذه المبادرة تشمل نحو 21 دولة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
وذكرت أن الصين دعت الأرجنتين لحضور قمة يونيو لمجموعة بريكس للاقتصادات الناشئة، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والانضمام إلى عضوية بنك التنمية الجديد، وهو بنك متعدد الأطراف مقره شنغهاي، ويهدف إلى أن يكون بديلاً للمؤسسات المالية التقليدية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وبينت المجلة الأمريكية أن الصين تواصل إغراء الأرجنتين بعمق أكبر في منطقة نفوذ الولايات المتحدة الجيوسياسي، رغم العلاقات الدبلوماسية القوية بين بوينس آيرس وواشنطن، مشددة على أنه من دون نهج أوسع تجاه أمريكا اللاتينية، يتضمن حاجات التنمية لدول القارة، فإن الولايات المتحدة تخاطر بفقدان نفوذها لصالح الصين.
الاقتصاد أولًا
وبينت "فورين بوليسي" أن الأرجنتين كانت دائمًا ما تتعلل بأزماتها الاقتصادية على مدى عقود، مشيرة إلى أن جائحة كورونا أدت إلى تدمير الأساس الاقتصادي الضعيف للبلاد.
ورجحت المجلة، أن يتجاوز التضخم 60 في المئة هذا العام، لافتة إلى أن الرواتب بالقيمة الحقيقية، تصل عند أدنى مستوى لها منذ 10 سنوات، مبينة أن الاحتياطات المتاحة من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي الأرجنتيني، آخذة في التضاؤل.
وأوضحت أن الأرجنتين دخلت في مفاوضات (صعبة) لسداد ديونها مع صندوق النقد الدولي، مشيرة إلى أنه وفقًا لبيانات البنك الدولي المُقاسة بالقيمة الحالية للدولار الأمريكي، قفزت النسبة بين أرصدة الديون الخارجية للأرجنتين والناتج المحلي الإجمالي -العقد الماضي- من أقل من 30% إلى أكثر من 65%.
لكن وسط هذه الأزمات الكبيرة -حسب المجلة- هناك نقطة مضيئة، إذ أدى ارتفاع أسعار السلع الأساسية ونقص الغذاء العالمي المرتبط بالحرب في أوكرانيا، إلى زيادة دخول المصدرين الزراعيين الأرجنتينيين.
ولهذا السبب -وفقًا لصندوق النقد الدولي- تتمتع الأرجنتين بإمكانية النمو عام 2022، إذا تمكنت من إخماد الاضطرابات السياسية في الداخل.
وأشارت المجلة إلى أن تحالف "جبهة الجميع" الحاكم في الأرجنتين يتعرض للتمزق، بسبب الاقتتال الداخلي، بين الجناح الأكثر اعتدالًا للرئيس ألبرتو فرنانديز والجناح اليساري الأكثر أيديولوجيًا لنائبة الرئيس كريستينا فرنانديز دي كيرشنر.
ويعود الخلاف -حسب المجلة- إلى صفقة صندوق النقد الدولي التي تفاوض عليها فرنانديز وقاومها أتباع كيرشنير، إضافة إلى الخسائر الفادحة التي تكبدها التحالف، في الانتخابات التشريعية النصفية العام الماضي.
وذكرت المجلة الأمريكية أنه غالبًا ما تتطلب قروض صندوق النقد الدولي ومصادر التمويل الغربية، إصلاحات اقتصادية شاقة، وتحديات سياسية كبيرة، وتعديلات هيكلية في البلدان المقترضة، مثل التقشف.
ورأت المجلة الأمريكية أن الديون والأزمات المالية المتكررة، أدت إلى منع الأرجنتين من تأمين نمو مستدام طويل الأجل، مشيرة إلى أنها تمتلك حاليًا الناتج المحلي الإجمالي نفسه تقريبًا، الذي كانت عليه قبل 10 سنوات.
كما كانت الأرجنتين -بعد فنزويلا- من أسوأ الدول أداءً على المستوى الإقليمي في مؤشر سندات الأسواق الناشئة، الذي يقيس أداء السندات في الاقتصادات النامية.
وكشفت المجلة الأمريكية أن الأزمات المتكررة في الأرجنتين وعدم استعدادها لاتخاذ تدابير التقشف، التي تحد من الإنفاق العام الزائد، يعنيان أنها نادرًا ما تجد تمويلاً ميسور التكلفة من الداعمين، من القطاع الخاص والشركات الغربية في الأسواق الدولية، مشددة على أنه على مدار العقد ونصف العقد الماضيين، استغلت الصين هذه الأزمات وقدمت بنوكها الحكومية، كحل لمشكلات الأرجنتين.
التحول شرقًا
ورأت "فورين بوليسي" أن الأرجنتين تُعد مثالًا رئيسًا على كيفية تحول أمريكا اللاتينية شرقًا لحاجاتها الاقتصادية والتنموية.
ورأت أن اهتمام بكين الشديد بالأرجنتين، يبدو نعمة للقادة في يسار الوسط السياسي في البلاد ويمين الوسط، حيث يسعى الأول إلى الابتعاد عن الاعتماد على قروض صندوق النقد الدولي، ويسعى الأخير إلى تنويع الوصول إلى الأموال الدولية.
وأشارت المجلة إلى أنه منذ عام 2005، تلقت الأرجنتين 17 مليار دولار في شكل قروض، معظمها من البنوك الحكومية الصينية، و20.6 مليار دولار من مقايضات العملات.
وفي أكتوبر 2020، أصبحت الأرجنتين عضوًا في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي أسسته الصين، وانضمت في فبراير إلى مبادرة طريق الحرير، وهو مشروع تقوده الصين لتوفير التمويل للبنية التحتية، وتحسين الاتصال بين اقتصادها والأسواق العالمية.
وبينت المجلة أن إدارة فرنانديز عملت توازنًا دقيقًا بين الصين والولايات المتحدة، إذ إنه بالنسبة إلى واشنطن، تُعد بوينس آيرس شريكًا رئيسًا للسلام الإقليمي والاستقرار الديمقراطي وتعزيز حقوق الإنسان في الأمريكتين، بينما تُعد الولايات المتحدة مصدرًا رئيسًا للاستثمار الأجنبي المباشر وراعيًا لبرامج التعاون الدولي في الأرجنتين.
لكن تذبذب فرنانديز بين الشرق والغرب، أدى إلى العديد من أخطاء السياسة الخارجية الأخيرة، على سبيل المثال -حسب المجلة الأمريكية- قبل أسابيع فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير، زار فرنانديز، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقدَّم الأرجنتين على أنها "بوابة" لأمريكا اللاتينية لموسكو، قبل أن يضطر إلى إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا، في المنتديات المتعددة الأطراف بعد فترة وجيزة.
كما سعى فرنانديز أيضًا لأن يكون محاورًا مع ديكتاتوريات المنطقة في فنزويلا ونيكاراغوا، وأعاد العلاقات الدبلوماسية مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بينما لا تعترف الولايات المتحدة بنظام مادورو.
وأشارت المجلة إلى أن ما سمته صراع فرنانديز المحلي على السلطة مع كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، رفع أسهمه في الخارج، لافتة إلى أن كتلة نائبة الرئيس تفضل تعديل التوجه الغربي للأرجنتين، مع متابعة المشاركة الجيوسياسية مع الصين.
وذكرت أن كتلة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، تميل نحو مناهضة الولايات المتحدة، إذ إنها منذ ولايتها السابقة كرئيسة من 2007 إلى 2015، اقتربت الأرجنتين من فنزويلا في عهد هوجو شافيز، واستقبلت زيارات رئاسية روسية من ديمتري ميدفيديف عام 2010 وبوتين عام 2014.
كما رفضت الأرجنتين بقيادة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر إدانة روسيا أثناء توليها السلطة، بعد أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014 .
وبينت المجلة الأمريكية أن العلاقات الأرجنتينية الصينية تعمقت خلال وجود كريستينا فرنانديز في السلطة، بزيارة الرئيس شي جين بينغ لبونيس آيريس عام 2014، حتى أنها -خلال تصريحاتها الأخيرة نائبة للرئيس- أشادت ببكين كـ"أنجح نظام رأسمالي".
حصاد العلاقات
وأوضحت "فورين بوليسي" أنه في غضون ذلك، ساعدت مغازلة الصين للأرجنتين، بكين في جني ثمار جيوسياسية، مشيرة إلى أن الصين تموِّل بناء ثالث أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في البلاد، بينما التزمت أيضًا بتمويل محطة الطاقة النووية الرابعة في الأرجنتين، وهي أول تصدير لبكين لهذه البنية التحتية الحساسة إلى أمريكا اللاتينية.
كما تستضيف الأرجنتين محطة أرضية صينية للفضاء العميق في مقاطعة نيوكوين، وُصفت بأنها "الصندوق الأسود"، إذ يُزعم أن المنشأة تهدف إلى تتبع عمليات إطلاق الأقمار الاصطناعية ودعم برنامج الفضاء السحيق الصيني، لكن أغلبية أنشطتها غير معروفة حتى للسلطات الأرجنتينية.
وأشارت المجلة الأمريكية، إلى أن الوجود البحري الصيني والعالمي في القطب الجنوبي، جذب انتباه أولئك الغارقين بالمنافسة الجيوسياسية في السنوات الأخيرة، إذ يكثر الحديث عن التمويل الصيني في منشأة الخدمات اللوجستية القطبية في الأرجنتين على قناة بيغل، التي يمكن أن تعمل بوابة للقارة القطبية الجنوبية، وتقع بالقرب من مضيق ماجلان وممر دريك، وهي نقاط الاختناق الاستراتيجية لحركة النقل البحري العالمية.
وبينت أن هذه الاستثمارات حدثت في مرحلة ما قبل الحزام والطريق بالأرجنتين، مشددة على أن انضمام الدولة إلى المبادرة يؤدي إلى تسريع هذه الأنواع من المشاريع، ويوفر المزيد من أسباب القلق لدى واشنطن.
أهم أسباب القلق هذه -حسب المجلة- أن مشاركة الصين في تحديث البنية التحتية للأرجنتين، يمكن أن يكون ذا استخدام مزدوج، ما يوفر للجيش الصيني نقاط نفوذ، في مواجهة مستقبلية محتملة مع الولايات المتحدة.
وأضافت أنه حتى في حال عدم وجود نزاع، يمكن الاستفادة من تأثير الصين الاقتصادي والتنموي، لانتزاع التنازلات السياسية من الدول المقترضة، وحصرها في التبعية من خلال تقييد خيارات السياسة الخارجية لديها، والمساهمة في فقدان الاستقلال الاستراتيجي.
واستطردت المجلة الأمريكية: "في الأرجنتين، يضرب هذا عصبًا حساسًا بشكل خاص، إذ أن الدخول الأعمق مع الصين، من المحتمل أن يقلل من استقلالية البلاد، أو أن يحشرها بين قوتين عظميين".
25/05/2022
https://alsyaaq.com/Argentina-Embrace-of-China