د. صدفة محمد محمود
جاء فوز السياسي اليساري “جابرييل بوريك”؛ برئاسة تشيلي، بعد حصوله على 56% من أصوات الناخبين في جولة الإعادة التي جرت في 19 ديسمبر 2021، وتغلُّبه على عضو الكونجرس السابق؛ اليميني المتطرف، “خوسيه أنطونيو كاست” مرشح الحزب الجمهوري البالغ من العمر 55 عاماً، والذي حصل على 44% من الأصوات، لتثير مزيداً من التساؤلات حول مآلات الفعاليات الانتخابية المرتقبة في قارة أمريكا اللاتينية خلال عام 2022، حيث اعتبر البعض فوز عضو الكونجرس ومرشح “تحالف الموافقة على الكرامة” اليساري، خلفاً لرجال الأعمال والسياسي المحافظ “سيباستيان بينيرا”؛ صحوة جديدة لليسار التقليدي في أمريكا اللاتينية، في حين رآه البعض الآخر بمثابة تدشين تيار يساري جديد أكثر اعتدالاً وأكثر محاباةً للبيئة ودفاعاً عن الفئات المهمشة مثلما تعهد خلال حملته الانتخابية.
دلالات مهمة
يمكن النظر إلى فوز الرئيس اليساري الشاب “جابرييل بوريك” في انتخابات الرئاسة التشيلية باعتباره حدثاً يحمل العديد من الدلالات المهمة، والتي من أبرزها ما يلي:
1– تصويت مضاد للسياسات الليبرالية الجديدة: على مدار العقود الماضية، تبنت الحكومات المتعاقبة في تشيلي، سياسات مؤيدة لاقتصاد السوق الحر والاستثمار الأجنبي، في حين ساهمت السياسات الليبرالية الجديدة في زيادة معدل النمو الاقتصادي، وتقليل الفقر خلال السنوات الماضية، لكنها لم تنجح بقدر كافٍ في معالجة أوجه الانقسام الاجتماعي الراسخ داخل البلاد، التي تعتبر الأقل مساواةً بين بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي؛ حيث يملك 1% فقط من السكان 26.5% من ثروات البلاد، وفقاً للأمم المتحدة.
لذلك لم يكن مفاجئاً أن يحظى بوريك، الذي كان زعيماً طلابياً عام 2011، بدعم قطاعات واسعة من المواطنين الذي يطالبون بالعدالة الاجتماعية والابتعاد عن نموذج اقتصاد السوق الحر، في ظل خطابه القائل بأنه “إذا كانت تشيلي مهد الليبرالية الجديدة، فستكون أيضاً قبرها”.
2– ترجمة حقيقية لحالة الاحتقان المجتمعي: تُعاني تشيلي منذ عام 2019، من واحد من أكبر الاحتجاجات منذ العودة إلى الديمقراطية عام 1990، وهو الاحتجاج الذي عبَّر عن الاحتقان المجتمعي والاستياء الشديد من تفاقم التفاوت الاجتماعي وعدم كفاية الخدمات العامة، والسكن غير الملائم، ونظام معاشات التقاعد المخصخص، ونظام الرعاية الصحية المُكلَّف والمُعقَّد، والتدهور البيئي.
ساهمت تلك الاحتجاجات في دفع القوى السياسية إلى الاتفاق على تشكيل جمعية دستورية تكون مهمتها إصدار دستور جديد للبلاد، بدلاً من الدستور الموروث عن نظام الدكتاتور العسكري الجنرال “أوجوستو بينوشيه” (1973–1990). ومن المرجح أن تصوغ الجمعية الدستورية ذات الميول اليسارية، دستوراً سيُطرَح للاستفتاء الشعبي عام 2022، سيتضمَّن على الأغلب حقوقاً اجتماعية محددة لطالما نادى بها المتظاهرون خلال السنوات الماضية.
3– تعبير عن الاستقطاب السياسي الحاد: مثَّلت الحملة الانتخابية لرئاسة تشيلي، جزءاً من حالة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي التي تعاني منها البلاد، وصوَّرت الانتخابات باعتبارها منافسةً بين الحرية والشيوعية. وحاول أنصار اليمين إقناع الناخبين بأن تشيلي في عهد بوريك ستصبح نظاماً استبدادياً مثل فنزويلا أو كوبا.
وظهرت الانتخابات كأنها اختيار لمرشحين على طرفي النقيض؛ ففي حين طرح كاست برنامجاً اقتصادياً شديد الليبرالية، يتضمن تقليص النفقات الحكومية وخفض الضرائب على الشركات لاستحداث وظائف، بجانب تأييده المعلن لنظام الجنرال بيونشيه؛ أعلن “بوريك” عزمه إجراء إصلاح ضريبي واسع لزيادة مساهمة الأثرياء، مع ضمان الوصول بشكل أفضل إلى الخدمات الصحية والتعليمية، وإصلاح نظام إدارة المعاشات التقاعدية، كما وعد بتقليص ساعات العمل الأسبوعية من 45 إلى 40 ساعة؛ لذلك فإن فوز بوريك كان يعني أنه “المرشح الأقل سوءاً” بنظر الناخبين، وهو ما يشير إلى نجاحه، إلى حد كبير، في جذب الناخبين الوسطيين.
4– انعكاس لرؤى جيل الألفية الجديدة: تُعد تشيلي مجتمعاً محافِظاً من الناحية الاجتماعية، يؤمن بالقيم العائلية والدينية التقليدية، في حين يعبر بوريك عن أفكار ورؤى أكثر تقدمية لجيل جديد من الشباب، يُدافع عن المساواة بين الجنسين وحقوق النساء والمثليين والحق في الإجهاض، إضافة إلى تبنيه رؤية تنادي بضرورة حماية البيئة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري المسبب لغازات الاحتباس الحراري وتشجيع الاقتصاد الأخضر. وبذلك يُمهد بوريك الطريق لجيل جديد من القادة السياسيين الشباب، الذين تشكَّل رأسمالهم السياسي في الشوارع نتيجة للاستياء الاجتماعي السائد في العديد من دول أمريكا اللاتينية.
تداعيات محتملة
من المُرجح أن تقود رئاسة “بوريك”، إلى إحداث تغييرات جوهرية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة في تشيلي، التي يمكن أن يتردد صداها أيضاً في بقية بلدان أمريكا اللاتينية، كما يتضح فيما يلي:
1– تبني نموذج الديمقراطية الاجتماعية: من المُرجح أن يسعى بوريك إلى تبني نموذج للديمقراطية الاجتماعية، شبيه بذلك الموجود في أوروبا، وتحديداً الدول الاسكندنافية. ومن غير المُرتقَب أن يتبنَّى مقولات اليسار التقليدي الذي يُنادي بضرورة وقف الخصخصة وتأميم الممتلكات العامة، أو أن يحكم مثل أي زعيم شعبوي يساري من أمريكا اللاتينية.
كان بوريك واضحاً في تشديده على أهمية المسؤولية المالية، واستقلالية البنك المركزي، وأنه لا قطيعة مع نظام السوق الحر، بل رغبة في تنظيم أكبر للاقتصاد، ودور متزايد للدولة لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين، مع التركيز في الوقت نفسه على العدالة المناخية والاستدامة البيئية والقضايا النسوية وحقوق السكان الأصليين والمهاجرين.
2– بروز جيل جديد من القادة اليساريين: تشهد أمريكا اللاتينية تحولاً متصاعداً نحو اليسار، مع اكتساب جيل جديد من اليساريين زخماً سياسياً قوياً، برز بوضوح مع فوز مرشحين لليسار في الانتخابات الرئاسية التي جرت في كل من هندوراس وبيرو خلال عام 2021. ويأتي هذا التحول مدفوعاً بموجة الغضب الشعبي العارم الناتجة عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت بفعل جائحة كوفيد–19. ومن ثم، يمكن أن يصبح رئيس تشيلي المنتخب، وجه اليسار الجديد لأمريكا اللاتينية، ويلهم المرشحين الآخرين في المنطقة.
مع ذلك، فإن التحول نحو اليسار ليس حاسماً في أمريكا اللاتينية، في ظل انتخاب المصرفي المحافظ “جييرمو لاسو” رئيساً للإكوادور في أبريل الماضي، كما ستحدد نتائج انتخابات كولومبيا والبرازيل –اللتين يحكمهما يمين الوسط– المقرر أن تُجرى في عام 2022، بشكل حاسم، التوجه السياسي لدول أمريكا اللاتينية خلال السنوات المقبلة. وبصفة عامة، من المرتقب أن تكون الموجة الجديدة من صعود اليسار أكثر تنوعاً وأقل تركيزاً على النواحي الأيديولوجية بوجه عام.
3– اتخاذ موقف مناهض للحكومات اليسارية التسلطية: يُعتبر بوريك محسوباً على التيار اليساري في تشيلي، وقد قوبل انتصاره بموجة ترحيب كبيرة من قبل الحكومات اليسارية الأخرى في أمريكا اللاتينية. ومع ذلك فإن بوريك لن يعمل بالضرورة على تعزيز علاقات بلاده مع بعض الدول التي تترأسها حكومات يسارية ذات توجهات تسلطية، وقد أدان بشدة انتهاكات حقوق الإنسان في فنزويلا، ووضع الديمقراطية في نيكاراجوا، وأعرب عن دعمه المعارضين الكوبيين، لكن هذا الموقف دفعه إلى التصادم مع العناصر الأكثر راديكاليةً في تحالفه، بما في ذلك الحزب الشيوعي الذي دعم بشكل مثير للجدل كلاًّ من ميجيل دياز كانيل في كوبا، ونيكولاس مادورو في فنزويلا، ودانييل أورتيجا في نيكاراجوا.
من جملة ما سبق، يمكن القول إن نجاح بوريك في تقديم نموذج مغاير لليسار التقليدي السائد في أمريكا اللاتينية، يواجه صعوبات عدة؛ إذ يعتمد بدرجة أساسي على قدرته على كسب ثقة القوى المعارضة، والحفاظ في الوقت نفسه على دعم العناصر المتطرفة داخل تحالفه، بجانب نجاحه في حشد دعم المشرعين داخل الكونجرس المجزأ إلى حد كبير؛ حيث لا يتمتع تحالف بوريك بالأغلبية؛ هذا بالإضافة إلى صياغته أجندة اقتصادية معتدلة تكون قادرة على طمأنة رجال الأعمال والمستثمرين الدوليين، وهو أمر في غاية الأهمية لاقتصاد سيعاني من تراجع معدل النمو الاقتصادي خلال عام 2022. ومع ذلك، فإن تراجع “بوريك” عن تعهداته الانتخابية في المجال الاقتصادي، يمكن أن يتسبب في إحباط الناخبين الذين صوتوا لصالحه، ويُنذر باستمرار الموجة الراهنة من الاحتجاجات العنيفة التي تشهدها تشيلي.
30/12/2021
https://www.interregional.com/