شهدت أمريكا اللاتينية تحولات سياسية مفصلية، متمثلة في عودة التيارات اليسارية إلى السلطة في عدد من دولها، ما أسهم في تغيير المشهد السياسي فيها، بعدما كانت الأحزاب اليمينية مسيطرة خلال العقد الماضي.
عودة اليسار في بلدان أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي بدأت بشكل متتالٍ منذ عام 2018 وصولاً إلى العام الجاري 2022، الذي يُعدّ عاماً لانتصارات الأحزاب اليسارية، بدءاً من زومارا كاسترو في هندوراس، وتمديد ولاية الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، وأخيراً انتخاب الرئيس لولا دا سيلفا، العائد للرئاسة في البرازيل.
في العام 2018 تم انتخاب أوبرادور في المكسيك، وميغيل دياز كانيل في كوبا، ولويس أرسي في بوليفيا عام 2020. وفي 2021 تم انتخاب دانيال أورتيغا في نيكاراغوا، وكذلك بيدرو كاستييو رئيساً للبيرو، وغابريل بوريك في تشيلي.
عودة اليسار على ذلك النحو في أمريكا اللاتينية تصاحبها انعكاسات خارجية متباينة، سواء بالنسبة لعلاقات تلك الدول التي شهدت صعود تيار اليسار، مع القوى الدولية الرئيسية، وكذا على طبيعة صراع النفوذ بين تلك القوى على الحديقة الخلفية لواشنطن، وحتى على مستوى المواقف من القضايا الدولية.
يُحلل الباحث المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينية، الدكتور محسن منجيد، المشهد الراهن بالإشارة إلى أنه بعد إجراء 7 انتخابات رئاسية في أمريكا اللاتينية منذ 2021، يتبين أن الناخبين تبنوا التوجهات اليسارية، حيث فازت التحالفات اليسارية التي دخلت غمار الانتخابات في خمس دول، هي «بيرو وهندوراس وتشيلي وكولومبيا والبرازيل». أما في الإكوادور وكوستاريكا فقد كان فوز اليمين استثناءً. ويشير إلى أن «نيكاراغوا شهدت منافسة انتخابية لم يتم إدراجها في هذه اللائحة رغم استمرار اليسار في قيادتها».
يقول الأستاذ الزائر بجامعة محمد الخامس بالرباط، منسق التقرير السياسي السنوي لأمريكا اللاتينية، في تصريحات لـ«البيان»: «إذا أضفنا المكسيك إلى المشهد، فإن القوى الاقتصادية في المنطقة (أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي) حالياً يحكمها اليسار، فمنذ عام 2000 لم تشهد المنطقة مثل هذا الحضور اليساري».
توجهات خارجية
وارتباطاً بالتوجهات الإقليمية والدولية للرؤساء الجدد، تظهر رغبة في تقوية الاندماجات الجهوية كما عبّر عن ذلك رئيس كولومبيا غوستافو بيترو بالنسبة لتجمع منطقة الأنديز التي تضم بيرو وبوليفيا والإكوادور، إضافة إلى كولومبيا. وأظهر لولا دا سيلفا دعمه لترشح كرستينا فيرنانديز لرئاسة الأرجنتين خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2023، حيث شكل كل من لولا وكرستينا أحد محاور اليسار الرئيسية للموجة اليسارية بعد العام 2000.
ويلفت الباحث المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينية إلى أن لولا دا سيلفا «سيحاول تقوية الزعامة الإقليمية للبرازيل كمدخل لإعادة الإشعاع على الساحة الدولية بعد سنوات من التراجع والانعزال الدولي، وسيشكل موضوع التغيرات المناخية وقضية الأمازون والأزمة الغذائية أحد مرتكزات التوجه الدولي عند لولا».
وبسيطرة اليسار على رئاسات أغلب دول أمريكا اللاتينية «ستتغير مجموعة من المعطيات المتعلقة بالسياسة الخارجية والعلاقات مع الدول الكبرى المتنافسة في عالم ما بعد كورونا وما بعد حرب شرق أوروبا»، طبقاً للباحث في العلاقات الدولية المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينية، الدكتور حمدي عمر أحداد، الذي أشار في تصريحات لـ«البيان» إلى أن النظرة المبسطة للأمور تشير إلى أن السياسة الخارجية الغالبة على دول أمريكا اللاتينية سوف تكون ميالة إلى روسيا تبعاً للتقسيم الأيديولوجي القديم، إلا أن تحليل هذا الأمر يعد تسطيحاً لمسألة معقدة، تبدأ من الأيديولوجيا اليسارية في أمريكا اللاتينية، وصولاً إلى طموح بناء عالم متعدد الأقطاب.
ويُرجع بعض الخبراء والمحللين صعود اليسار الجديد إلى التطور السياسي في المنطقة، وتداعيات الجائحة، وتحوُّلات جيوسياسية أوسع في العالم، أي أنه لا يمثل نسخة أيديولوجية للاشتراكية التقليدية، بقدر ما هو منحى لإعطاء حلول اجتماعية واقتصادية للأزمات.
تحولات اجتماعية
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد تنظر إلى اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية بوصفه تهديداً، بل أصبحت تسعى إلى التعاون مع هذه الأنظمة وفق استفادة متبادلة، خاصة أنها أصبحت تجد ليونة كبيرة لدى القادة الجدد بالمنطقة، الذين «يميلون إلى أن يكونوا أقل أيديولوجياً من أولئك الذين كانوا في الماضي». ويوضح أحداد أن واشنطن تبدو حريصة بشدة على العمل مع الجميع بغض النظر عن خلفياتهم الأيديولوجية.
وكان وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين، أوضح أن بلاده «ستعمل بكل سرور مع الحكومات، يميناً أو يساراً، طالما أنها ديمقراطية»، وذلك بعد قيامه برحلة شملت معظم بلدان أمريكا الجنوبية، واجتمع مع ثلاثة من الرؤساء اليساريين في المنطقة. كما قال بريان نيكولز، وهو أحد مساعدي وزير الخارجية:
«نحن لا نحكم على الدول على أساس موقعها في الطيف السياسي، بل بالأحرى التزامها بالديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان»، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة لن تنظر إلى المنطقة بعين «الحرب الباردة» التي سبق لها أن قسمت المنطقة على أسس أيديولوجية صارمة.
روسيا والصين
في الاتجاه الآخر، لا يبدو أن الصين وروسيا غائبتان عن أمريكا اللاتينية، وهو ما عبّر عنه مسؤول عسكري أمريكي في تقرير أمام إحدى جلسات الاستماع بالكونغرس، شدد خلاله على أنه رغم أن وجود روسيا في أمريكا اللاتينية لا يقارن في الحجم بوجود الصين، فإن روسيا قامت مع ذلك في السنوات الأخيرة بتوسيع نطاق نفوذها في أمريكا اللاتينية.
كما أن مبعث القلق بصفة خاصة هو أن روسيا لا تعزز علاقاتها مع شركائها القدامي في أمريكا اللاتينية، مثل كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا فحسب، لكنها تقيم الآن علاقات جديدة وأقوى مع دول كانت تميل تقليدياً للولايات المتحدة، مثل البرازيل والأرجنتين.
وفي نفس الإطار سبق للرئيس الأرجنتيني أن عرض أن تكون حكومته البوابة لدخول روسيا إلى أمريكا اللاتينية، فيما وصف الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الدعم العسكري من حلف الناتو لأوكرانيا بأنه «غير أخلاقي». وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس البرازيلي المنتهية ولايته، جايير بولسونارو، أن أعلنا اعتزامهما تعزيز شراكتهما الاستراتيجية.
ويشير أحداد هنا إلى ما ذهب إليه محللون أمريكيون رأوا أن الإجراءات الروسية في أمريكا اللاتينية تقوض بشكل كبير الوضع الأمني في نصف القارة الجنوبي، إضافة إلى تمكين الصين من كسب النفوذ، وأنه يتعين النظر إلى نفوذ روسيا المتزايد في أمريكا اللاتينية بالتزامن مع النفوذ الهائل للصين في المنطقة.
انعكاسات دولية
من وجهة نظر أخرى، وفي سياق الانعكاسات الخارجية لعودة اليسار إلى حديقة واشنطن الخلفية، يشير الباحث في العلاقات الدولية المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينية، محمد عطيف، في تصريحات لـ«البيان» إلى أن عودة اليسار من جديد قد تسهم في إحداث بعض التغييرات في السياسة الخارجية لتلك الدول، لا سيما في ما يخص العلاقات مع الولايات المتحدة.
لأن هذه الأخيرة داعمة للأحزاب اليمينية، في المقابل تدعم روسيا الأحزاب اليسارية، ويستدل على ذلك بقوله إن «التغيرات التي طرأت على مستوى العلاقات الدولية لدول تلك المنطقة أسهمت في خلق بعض التصدعات والانقسامات في المواقف من الحرب في أوكرانيا على سبيل المثال، ذلك أن مجموعة من دول المنطقة، لا سيما ذات التوجه اليساري الراديكالي، تؤيد ضمنياً روسيا».
ويتحدث عطيف عن البرازيل، العضو في تحالف بريكس بقيادة روسيا والصين، والتي تعتبر من الدول ذات الثقل الاقتصادي في أمريكا اللاتينية، مشيراً إلى أن فوز لولا دا سيلفا يشكل تحدياً للأحزاب اليمينية والقوى الغربية، وقد ينضم إلى تكتل دولي مناهض لسياساتها ويصطف إلى جانب الصين وروسيا، ما قد يفضي إلى تغير في التحالفات والتوازنات في العالم.
13/11/2022
https://www.albayan.ae/world/global/2022-11-13-1.4557394