التداعيات السلبية للجرائم الفردية في أمريكا اللاتينية والكاريبي

الخميس, 26 أيار 2016 08:24

شهد العالم وفقاً لتقرير “مؤشر السلام العالمي” (Global Peace Index) الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام الأسترالي تدهوراً مستمراً في حالة السلام والاستقرار منذ العام 2008 وحتى 2014. وعلى الرغم من ذلك، فإنه خلال العقد الماضي، استطاعت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي تحقيق معدلات نمو مستدامة، وهو ما انعكس إيجابياً على المؤشرات الاجتماعية – الاقتصادية، بدءاً من ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة معدلات التوظيف، وصولاً إلى زيادة جهود محو الأمية.
في مقابل ذلك لاتزال منطقة أمريكا اللاتينية تواجه مشكلتين من دون حل وهما: اللامساواة وانعدام الأمن. وقد نجحت عدة دول لاتينية في تقليص معدلات اللامساواة نظراً لقيامها بتوزيع الإنفاق العام بطريقة أفضل على الطبقات الدنيا من المجتمع من خلال برامج الدمج الاجتماعي الحكومي، وهو ما انعكس في خفض معدل الفقر من %48.3 إلى %33.2 في الفترة الممتدة بين 1990 – 2008. وعلى الرغم من ذلك، فإنه في الفترة ما بين 2008 و2010، كان هناك ثماني دول من أصل عشرة بلدان من أمريكا اللاتينية ترتفع فيها معدلات اللامساواة إلى أعلى مستوى، حيث تستحوذ الطبقة الأغنى في المجتمع، التي تمثل %10، على %32 من إجمالي الدخل في 2012، وذلك وفق اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية، أما عن انعدام الأمن، فقد سار على نحو أسوأ من ذلك بكثير.
أولاً: تصدر أمريكا اللاتينية مؤشرات العنف
تتصدر منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي قائمة الدول الأكثر تعرضاً لحوادث العنف بين الأفراد على مستوى العالم، وهناك عدة مؤشرات على ذلك:
• إن هناك 19 دولة من أمريكا اللاتينية ضمن قائمة البلدان الـ 25 ذات المعدلات الأعلى لجرائم القتل في 2012.
• ارتفاع معدلات الجريمة في أمريكا اللاتينية، فبينما وصل متوسط معدلات الجريمة في العالم إلى 6.2 لكل 100 ألف نسمة في 2012، كان معدل الجريمة للعام ذاته في أمريكا اللاتينية والكاريبي أعلى بكثير، إذ بلغ 26 لكل 100 ألف نسمة.
• على الرغم من أن عدد سكان منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي يشكلون %8.5 فقط من عدد سكان العالم، فإن %32 من مجموع جرائم القتل وقعت في هذه المنطقة.
ثانياً: جرائم الشارع أكثر خطورة من الجريمة المنظمة
أظهر مسح ميداني أجرته مؤسسة لايتنو بارومترو في العام 2011، أن %33 من السكان عانوا اعتداء في عام 2011، وأن %18 أعلنوا أنهم كانوا ضحايا لاعتداء عنيف. صحيح أن الجريمة المنظمة تشكل واحداً من أخطر وأكبر التهديدات التي تؤثر بشدة على التنمية البشرية، لكن العنف في أمريكا اللاتينية لا يرتبط فقط بعصابات الجريمة أو تهريب المخدرات، فهناك عدد كبير من التهديدات التي يتعرض لها المجتمع، حيث تعتبر الجريمة العادية هي التهديد الرئيسي الذي يتعرضون له، يؤكد هذا تقرير حديث بعنوان “السلامة العامة” صادر عن مؤسسة لاتينو بارومترو البحثية في 2012، إذ يذهب إلى أن أكثر من %40 من السكان يعتقدون أن هذه الجرائم غير المنظمة هي التي يشكل الخطر الأمني الرئيسي، مقابل %15 يعتبرون أن تهريب المخدرات هو الخطر الأمني الرئيسي.
في هذا الإطار، حدّد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في تقرير له في 2013، ستة تهديدات رئيسية لأمن دول أمريكا اللاتينية، آخذاً بعين الاعتبار تأثيرها على التنمية البشرية، وجاءت على النحو التالي: جرائم الشارع، والجريمة المنظمة، والعنف والجريمة المرتكبة بحق الشباب، والعنف بين الجنسين، والفساد، والعنف غير المشروع الذي ترتكبه الجهات الحكومية. ومن بين الجرائم غير المنظمة المذكورة آنفاً، تأتي السرقة بوصفها الأكثر شيوعاً بين مشكلات انعدام الأمن في هذه المنطقة، وتؤكد على ذلك استطلاعات رأي حديثة، إذ إن واحداً من بين خمسة أشخاص تعرض للسطو في السنة السابقة، فمن الجدير بالذكر أن عمليات السطو المسلح تشكل نسبة %60 من إجمالي عدد الجرائم، وفي معظم الحالات، لا يتم إبلاغ السلطات المختصة عن التعرض للسطو المسلح.
ثالثاً: ارتفاع تكلفة مواجهة الجريمة في ظل تراجع دور الدولة
لانتشار العنف تكلفة مرتفعة جداً لكل من الضحايا والدولة معاً، ويمكن حساب تكلفة العنف ببعدين أساسيين هما: التكلفة المباشرة وغير المباشرة، وترتبط التكلفة المباشرة ارتباطاً وثيقاً بقيمة الأدوات والخدمات المستخدمة في عمليات منع الجريمة والسيطرة عليها، ومن ذلك: العناية الصحية (المستشفيات، عمليات الإسعاف والطوارئ، ودعم الضحايا)، والشرطة (العتاد، النقل والتدريب)، والعدالة (المحاكم، السجون والمحاكمات)، والإسكان (الملاجئ، الخدمات الأساسية، والدعم النفسي)، أو الخدمات الاجتماعية (التدريب على العمل، التعليم، وإعادة الدمج)، وبحسب بنك التنمية للدول الأمريكية، تؤثر هذه التكاليف تأثيراً سلبياً على الناتج المحلي الإجمالي للدول هناك، ففي أوروغواي، على سبيل المثال، بلغت نسبتها %3 من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010، بينما وصلت في هندوراس إلى حوالي %11.
أما التكاليف غير المباشرة، فتتمثل في تأثير الجرائم على الصحة (معدلات استهلاك الكحول والمخدرات، الاضطرابات المرتبطة بالاكتئاب، وارتفاع حصيلة الوفيات)، وكذلك على الاقتصاد (إنتاجية أقل، التغيب عن العمل، الخسائر الاقتصادية)، أو على المجتمع بوجه عام (الخوف، انخفاض جودة المعيشة، والتأمين الخاص، وانخفاض الجودة الديمقراطية، وزيادة الخلافات الاجتماعية)، ومن جهة ثانية، فإن للخوف تأثيرات سلبية على سلوك البشر، حيث يضطر البعض إلى ترك مناطقهم السكنية، أو إلى تغيير طريقة قضاء وقت فراغهم، أو استخدام الأماكن العامة، وهذا يعني في النهاية انخفاض جودة الحياة بوجه عام.
ويعد أمن المواطن سلعة عامة، ولذا ينبغي أن تكون الدولة هي الضامن الوحيد لها، وعلى الرغم من كون جهاز الشرطة ومؤسسة القضاء الجهتين المنوط بهما مكافحة الجريمة، فإن مستوى الثقة بهاتين المؤسستين منخفض جداً بين دول الإقليم، ففي منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي، يثق %33 فقط من المواطنين بالشرطة، بينما يثق %29 منهم بالسلطة القضائية (بحسب لاتينو بارومتر– 2011)، ويمكن إرجاع ذلك لحقيقة أن أجهزة الشرطة تعاني مشكلات في الاعداد والتدريب وتعاني نقصاً في الموارد البشرية، فضلاً عن استشراء الفساد فيها، أما فيما يخص الأنظمة القضائية، فإن تراجع الثقة فيها يرجع إلى غياب العدالة في بعض البلدان.
وقد أدت تلك العوامل في مجملها إلى زيادة نسبة توظيف شركات الأمن الخاص، وهو الأمر الذي يؤدي في الوقت نفسه إلى زيادة حدة اللامساواة بين طبقات المجتمع، فنظراً لأن كافة الفئات في المجتمع لا تستطيع تحمل تكلفة الأمن الخاص، فإن هذا يجعل الأمن سلعة يمكن للأغنياء فقط الحصول عليها، بمعنى آخر، شكل غياب الدولة فراغاً قامت شركات الأمن الخاصة بملئه، الأمر الذي أدى إلى صعود قطاع أعمال تعتمد أرباحه على توفير الأمن.
رابعاً: مواجهة الجريمة – معالجة الأبعاد المتعددة لها
بوجه عام، لابد من تفسير وشرح تصاعد العنف في ظل إطار واقعي متعدد الأبعاد، ففي هذا الصدد، يصف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير له بعنوان “أمن المواطن بوجه إنساني” أربعة أبعاد وهي:.
• البعد الاقتصادي البنيوي: الذي يشمل الوظائف متدنية الأجور، وتراجع الحراك الاجتماعي، الذي أدى في سياق “النمو الاقتصادي المدفوع بإنفاق المستهلكين” إلى توليد ما يسمى “الجرائم المتعلقة بالطموح” (aspirational crimes).
• البعد الاجتماعي، الذي يعكس التغيرات البنيوية في العائلات ومعدلات التسرب من المدارس، وهو يتسارع بفعل النمو الحضري الذي يفتت تآكل النسيج الاجتماعي.
• محركات الجريمة، مثل الأسلحة والكحول والمخدرات، وهي ليست أسباباً بنيوية، كما ذكرنا، لكنها تشكل تسهيلاً للجريمة.
• غياب كفاءة الدولة
وتفيد التجارب الدولية المختلفة بأن الإجراءات الوقائية تكون أكثر فعالية من حيث التكلفة من الإجراءات القمعية، كما أن تكلفة التحكم والتعويضات بعد وقوع الجريمة تكون أكبر بستة أضعاف من تكلفة منع الجريمة. وفي المقام الأول، تعتمد مسألة منع العنف ضمن مجتمع أمريكا اللاتينية على القدرة على تقديم مجموعة من الإجراءات المتنوعة للتهديدات المختلفة، مع الأخذ في الحسبان المستويات الثلاثة الرئيسية للحكم، وهي: الوطني والإقليمي والمحلي، وإضافة إلى ذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه في الأغلبية الساحقة من الحالات، لا يكون هناك تهديد واحد منفرد، بل تهديدات عديدة، وهو ما يتطلب حزمة من السياسات والإجراءات معاً، تضم الإجراءات الوقائية والعقابية في الوقت نفسه.
وإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تفرق استجابة الدولة ما بين مستوى خطورة ودرجة تعقيد كل تهديد، فعلى سبيل المثال، عادة ما تتركز عملية منع جرائم الشارع على تقييد الظروف التي تساعد على الجريمة، من خلال إضاءة أفضل للأماكن العامة، ونشر المزيد من قوات الشرطة في مناطق النزاع، هذا في حين أن مكافحة الجريمة المنظمة تحتاج إلى استخدام مزيد من الموارد من أجل إجراء التحقيقات، وإعداد هيئات أمنية متخصصة، وتوفير معدات أفضل، إضافة إلى زيادة التنسيق بين المؤسسات الأمنية المختلفة داخل الحكومة.
وتشير الخبرات الدولية إلى أن تدخل الحكومات المحلية لمواجهة الجريمة يكون أفضل في حالات كثيرة، نظراً لأنها لديها سيطرة أفضل على الشرطة وهيئات العدالة على المستوى المحلي، وقدرة أكبر على التنسيق بينها، ومن ناحية أخرى، تعد مشاركة المواطنين وبرامج المجتمع المدني أداة مهمة ووثيقة الصلة، لإشراك الناس في منع الجريمة، وفي رسم خرائط مناطق الجريمة ونقاط بيع المخدرات وغيرها.
فقد وضع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعض التوصيات المعنية بتخفيض مستويات العنف في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي، وتشمل هذه الإجراءات: تشجيع برامج الحد من اللامساواة الاجتماعية، وتقوية نظام الشرطة والنظام القضائي، ورفع مستويات مشاركة المواطنين في البرامج الأمنية المحلية، وتوليد فرص أكثر وأفضل لمصلحة الشباب، والحدّ من إمكانية الوصول إلى محركات الجريمة.
الخلاصة
بعد هذا الاستعراض الموجز، يبدو الوضع كارثياً، لكن من المهم هنا التأكيد على أنه في العامين الماضيين، كانت هناك تحسينات أمنية ملحوظة في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي، مثل مفاوضات السلام بين منظمة “القوات المسلحة الثورية في كولومبيا” (فارك) والحكومة الكولومبية، وبرامج السلام التي تم طرحها في الأحياء الفقيرة في البرازيل (المعروفة هناك باسم فافيلا) ونفذتها وحدات التهدئة التابعة للشرطة، فضلاً عن اتفاق إنهاء العنف بين أكبر عصابتين في السلفادور، وهما عصابة باريو 18 وعصابة إم إس13 (مارا سالفاتروتشا13)، في 2012، وقد شكلت تلك التطورات بداية لحقبة جديدة سلمية في المنطقة، والحقيقة أنه لايزال هناك طريق طويل ينبغي قطعه في المسائل الأمنية، ولكن في الوقت نفسه، إذا استمر انخفاض مستويات الفقر واللامساواة، فستكون هناك موارد أكثر من أجل منع العنف والتحكم به. غير أن هناك تحدياً إضافياً آخر يتعلق بتخفيض مستويات الفساد الحالية، والتي تعيق في معظم الحالات نهضة أمريكا اللاتينية، ولا بد لمجتمع أمريكا اللاتينية ككل أن ينخرط في تقوية الأمن، فلكل شخص دور مهم يلعبه في هذه المعركة، فالعنف وانعدام الأمن يطالان الجميع.
http://alwatannewspaper.ae/?p=29049

قراءة 1636 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)