هل تتحول الاضطرابات المدنية في هايتي إلى حرب أهلية؟

الإثنين, 15 تموز/يوليو 2024 13:53

10+ Idioma Haiti Vídeos de stock y películas libres de derechos - iStock

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

د. محمد بوبوش: أستاذ القانون العام بجامعة محمد الأول بوجدة-المغرب

 

 

 لا يمكن فصل حروب العصابات الدموية الجارية في سيتي سولاي، في ضواحي العاصمة الهايتية بورتو برنس الأخيرة، عن التاريخ غير المستقر للبلاد الممزوج بلعنة التاريخ والجغرافيا والسياسة، والنابع من دخول مكتشف أميركا، الإيطالي كريستوفر كولومبوس، إليها في رحلته الأولى إلى "العالم الجديد"، في 6 ديسمبر  عام 1492، مروراً بالانقلابات المتتالية التي شهدها تاريخ البلاد، ووصولاً إلى تواجدها في منطقة مناخية مضطربة، نظرا لكثافة الأعاصير الموسمية التي تضربها، ووجودها على رأس الصفيحة التكتونية الكاريبية، التي تجعل من الزلازل حدثاً "اعتيادياً" فيها.

 

وتشهد هايتي انتشاراً واسعاً للعصابات وتزايداً مطّرداً لسلطتها، وقد بدأت الظاهرة في التنامي خلال الستينيات إبان حكم الرئيس فرانسوا دوفالييه، واستمرت بعدها في ولاية ابنه جان كلود، وطوال الأعوام الـ29 لحكمهما تحالف الرئيسان مع العصابات واستخدماها في إرهاب المعارضة.

 

وبالرغم من إسقاط جان كلود دوفالييه في عام 1986، استمرت أنشطة العصابات في هايتي بشكل مستقر، وسرعان ما بدأت هذه الأنشطة بالزيادة من جديد مع انتخابات عام 2011. "السياسيون استخدموا هذه العصابات المسلحة كوسيلة لتعزيز نفوذهم في البلاد،" وفقًا لتصريحات الكاتبة والباحثة الهايتية إيميلي بروفيت، حيث بدأت الأمور في الخراب إذ أصبحت العصابات تتحكم في صنع القرارات في البلاد.

 

أسباب تنامي دور الاضطرابات المدنية

 

يمكن إرجاع تفاقم سطوة العصابات الإجرامية في الجزيرة إلى فترة انتخابات سنة 2011، حيث "عمد السياسيون إلى الاستقواء بهذه العصابات المسلحة" لبسط نفوذهم على الأرض، لكن سرعان ما "خرجت الأمور عن السيطرة وأصبحت العصابات هي من تتحكم بالقرار في البلاد".

 

وقد فاقمها اغتيال الرئيس" جوفينيل مويز" في مقر إقامته في 7 يوليو 2021.  بعدها اشتد الخلاف بين السلطات السياسية حول تشكيل حكومة انتقالية ودستور جديد.

إضافة إلى الزلزال الذي ضرب البلاد في 14 أغسطس 2021، مما أثر على أكثر من 800 ألف شخص في شبه الجزيرة الجنوبية الغربية.

 

ومنذ مقتله تنامى نفوذ العصابات، التي لم يكن بعيداً عنها، بسبب تحالفه مع بعضها. حتى أن مقتل "مويز" يبقى غامضاً، على الرغم من الإشارة إلى أدوار أميركية وكولومبية فيه.

 

وتشير التقديرات إلى أن العصابات في هايتي سيطرت على نحو 80 في المائة من مدينة بورت أو برنس في السنوات الماضية ونشأت العصابات بسبب التاريخ المضطرب لهايتي، وأيضاً بسبب تفكيك الجيش في عام 1995 على يد الرئيس الأسبق، الكاهن الكاثوليكي جان ـ برتران أريستيد، على خلفية الانقلابات العديدة التي انخرطت فيها المؤسسة العسكرية منذ نحو قرنين.

 

حتى أن بعض العصابات، لا تعتبر نفسها عصابة بل "حزباً سياسياً يقاتل لتحقيق أهدافه". ومن هذه "العصابات"، عصابة يقودها الشرطي السابق، جيمي "باربيكيو" شيريزييه، الذي أقفل محطات توزيع الوقود، مسبباً بأزمة طاقة خانقة. وساهم ذلك في نمو الفساد، المتأصل أساساً، بصورة كبيرة في البلاد.

 

 فهايتي تمثل بيئة مناسبة لـ"صناعة الجريمة"، حيث "تنتشر الأسلحة بين يدي شباب الأحياء الفقيرة، ما يدفعهم إلى البحث عن المال عبر اختطاف الناس في وضح النهار بين أزقة العاصمة بورت برينس"، فما يحدث يمكن تأطيره في مناخ يطبعه ما يصطلح عليه ب "الدولة الفاشلة  Failed State  " وفقدان الحكومة الهايتية أية سيطرة على أراضيها مما قد يؤدي إلى  فتح الباب أمام موجات الهجرة وعدم الاستقرار في المنطقة، لا سيما في جمهورية الدومينيكان، التي تشترك معها هايتي في جزيرة، وتشكل تحديا للرئيس جو بايدن.

 

وتجدر الإشارة أن من يسيطر على هذه العصابات أشبه بأمراء الحرب. من الناحية التنظيمية فهم أفضل تسليحاً من جهاز الشرطة ويفوق عددهم عدد أفراد الشرطة. حيث ينفذون كل أنواع الإجرام، من اتجار بالبشر إلى الخطف والسرقات المسلحة، إضافة إلى تجارة المخدرات والأسلحة. بل يفرضون على المواطنين إتاوات وضرائب  إزاء الخدمات العامة في ظل غياب السلطة بالبلاد.

 

ولا تزال حالة الفوضى مستمرة مع وقوع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الوطنية الهايتية (PNH) والجماعات المسلحة التابعة لائتلاف "Vivre Ensemble" ("العيش معًا"). بالإضافة إلى ذلك، تم إغلاق المدارس في منطقة العاصمة الكبرى منذ أكثر من شهر،تحت سيطرة  زعيم العصابة جيمى تشيريزير، المعروف باسم باربكيو.

 

كما يمثل تدفق الأسلحة الأمريكية إلى العصابات الإجرامية مشكلة متنامية في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي. فما يقرب من 85 بالمائة من الأسلحة التي تم العثور عليها في مسارح الجريمة عام 2021 في هايتي أمريكية، وارتفع هذا الرقم في جزر البهاما عام 2022، إلى 98 بالمائة.

 

وتشير بعض التقديرات، إلى أن هناك نصف مليون سلاح ناري غير مرخص في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 11 مليون نسمة، حسبما أفاد مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة هذا العام. وأبلغت الشرطة الوطنية الهايتية في عام 2015 عن وجود 38000 قطعة سلاح مرخصة.

 

ويشير تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة نُشر في 2023، بأنّ "المصدر الرئيسي للأسلحة النارية والذخيرة في هايتي موجود في الولايات المتحدة خصوصاً في فلوريدا ، ويتم شراء الأسلحة بشكل قانوني من الولايات الأقل صرامة بشأن شروط البيع، وتُنقل إلى هايتي عبر "إخفائها في سلع استهلاكية أو معدات إلكترونية أو بطانات ملابس أو أغذية مجمدة أو حتى في حاويات شحن".

 

وتصل بعض الأسلحة إلى هايتي عبر الحدود البرية التي يسهل اختراقها مع جمهورية الدومينيكان. كما رصدت الأمم المتحدة أيضًا 11 مهبط طائرات "سري" في هايتي "نادرًا ما تخضع للتفتيش".

 

وتشير أرقام عام 2023 إلى أن عدد قوات الشرطة الوطنية في هايتي يبلغ 9 آلاف شرطي فقط في الخدمة الفعلية في بلد يبلغ تعداد سكانه 11.5 مليون نسمة، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إن البلاد بحاجة إلى نحو 26 ألف شرطي.

 

وفي ذات الوقت يتحدث تقرير صادر من المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، نُشر في أكتوبر/تشرين الأول 2022، أنه يوجد حاليا نحو 200 عصابة في هايتي، 95 منها تتمركز في العاصمة بورت أو برنس.

 

إضافة إلى هذا تفرض هذه العصابات إتاوات بخاصة على أصحاب المحال التجارية والورشات الصناعية الصغيرة المنتشرة في مناطق نفوذهم. ويقدّمون خدمات حماية للشخصيات السياسية ورجال الأعمال في أثناء وجودهم بها مقابل المال. حسب ما يوضح "المركز الهايتي للتحليلات والأبحاث في حقوق الإنسان.

 

وبسبب تفوق العصابات في العدد والسلاح، والفرار من الخدمة، تنازلت الشرطة عن السيطرة في مناطق واسعة من البلاد. وحسب هيومان رايتس ووتش، يوجد قرابة 10 آلاف ضابط شرطة هايتي، لكنهم يواجهون تحديات لوجيستية ويفتقرون إلى التدريب والمعدات. كما أن الكثير من ضباط الشرطة لديهم علاقات بالعصابات.

 

إن سيطرة العصابات على نقاط الدخول والخروج الاستراتيجية للعاصمة كان لها تأثير ضار على اقتصاد هايتي وحركة الناس والبضائع، مشيرة إلى أن قوات الشرطة التي تعاني من الإرهاق ونقص الموارد لا يمكنها أن توقف ارتفاع معدل الجريمة دون تعزيزها وتوفير الخدمات الحكومية للأحياء الفقيرة.

 

 وقد دقت اليونيسف ناقوس الخطر بشأن تجنيد الأطفال واستخدامهم من قبل الجماعات المسلحة في هايتي. وقدرت الوكالة الأممية أن ما بين 30 إلى 50 في المائة من أعضاء الجماعات المسلحة هم من الأطفال، وهم معرضون للإكراه وسوء المعاملة والاستغلال الناجم عن الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المستمرة بسبب استمرار العنف الذي دفع أجزاء من البلاد إلى الفوضى.

 

 

 

 خطوة إيجابية نحو إحياء المؤسسات الديمقراطية

 

وافق رئيس الوزراء المؤقت في هاييتي" أرييل هنري" الاثنين 12 مارس 2024  على التنحي عن منصبه، حسبما أعلن رئيس مجموعة دول الكاريبي (كاريكوم) في مؤتمر صحفي عقب اجتماع عقد في جامايكا لبحث الوضع في هاييتي التي تعاني جراء عنف العصابات وتشهد أزمة حكم.

 

وقال "محمد عرفان علي" رئيس غويانا وكاريكوم، لقد قدم رئيس وزراء هاييتي أرييل هنري استقالته، معلنا عن اتفاق حكم انتقالي يمهد الطريق لانتقال سلمي للسلطة.

 

وتوجه هنري إلى كينيا أواخر فبراير 2024 لضمان قيادتها لمهمة أمنية دولية تدعمها الأمم المتحدة لمساعدة الشرطة في محاربة العصابات المسلحة، لكن التصعيد الكبير في أعمال العنف في العاصمة بورتو برانس في أثناء غيابه تركه عالقا في بورتوريكو الأميركية.

 

 توصل السياسيون من مختلف الأطياف، بما في ذلك المعارضة ومجموعات الائتلاف الحاكم السابقة، إلى اتفاق في 11 سبتمبر 2021، لتشكيل مجلس انتخابي مؤقت جديد، بهدف إجراء الانتخابات في موعد أقصاه النصف الثاني من عام 2022.

 

وهناك إجماع وطني كبير يرغب في إصلاح دستور هايتي لعام 1987، وهو ميثاق يُنظر إليه، على نطاق واسع، على أنه يساهم في عدم الاستقرار السياسي والمؤسسي المتكرر.

 

وقد رحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتعيين غاري كونيلي رئيسا مؤقتا لوزراء هايتي من قبل المجلس الرئاسي الانتقالي، وشجع جميع أصحاب المصلحة الهايتيين على العمل معا لضمان تحقيق "تقدم مطرد في العملية الانتقالية لاستعادة المؤسسات الديمقراطية من خلال إجراء الانتخابات.

 

 

دعم المجتمع الدولي لاستقرار هايتي...المهمة الصعبة

 

خلال المؤتمر الصحفي اليومي في نيويورك، الجمعة 31 ماي 2024، أكد المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك على ضرورة أن يكون التقدم في عملية الانتقال السياسي مصحوبا بالمكاسب الأمنية المطلوبة بشكل عاجل.مضيفا "لذلك يكرر الأمين العام دعوته إلى النشر السريع لبعثة الدعم الأمني متعددة الجنسيات في هايتي لدعم الشرطة الوطنية الهايتية في معالجة الوضع الأمني ​​المتردي، ويناشد جميع الدول الأعضاء بشكل عاجل ضمان تقديم الدعم المالي واللوجستي الذي تحتاجه فورا لتحقيق النجاح".

 

وقد صوّتت 13 دولة لصالح البعثة، في حين امتنعت روسيا والصين عن التصويت. وستكون القوة بقيادة كينيا، التي أعربت عن استعدادها للمساهمة بـ1000 ضابط شرطة. وتعهدت دول كاريبية مثل الباهاما، وجامايكا، وأنتيجوا وباربودا، بإرسال أعداد أقل.

 

وقد دعت الأمم المتحدة، الخميس 29 مارس 2024، إلى تطبيق حظر الأسلحة بشكل أكثر فاعلية في هايتي محذرة من أن الوضع "كارثي" في هايتي التي تعمها الفوضى حيث قتل أكثر من 1500 شخص في أعمال عنف تمارسها العصابات هذه السنة، وهرب أكثر من 200 ألف من منازلهم، فالعنف فاقم الفقر، وجعل أكثر من نصف سكان الدولة، البالغ عددهم 11.4 مليون نسمة، يعانون من سوء التغذية. وقد نددت باستمرار وصول أسلحة الى البلاد. فيما أعربت مديرة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، الثلاثاء 27 مارس 2024 عن قلقها خصوصا على 125 ألف طفل مهدّدين بسوء التغذية الحاد. كذلك يفتقد 4 ملايين طفل إمكانية الوصول إلى التعليم، لأن المدارس في المدن الكبرى تُستخدم لإيواء الأشخاص النازحين من عنف العصابات. وتسيطر العصابات على الموانئ التجارية، ومستودعات النفط، والطرق الرئيسة.

 

الولايات المتحدة  بدورها  لم ترسل جنودًا إلى هايتي، لكنها قدمت مساعدات بقيمة 100 مليون دولار ، وحسب القائمة بأعمال نائب وزير الخارجية الأمريكي، فيكتوريا نولاند، من المتوقع أن يقدم الجيش الأمريكي معلومات استخباراتية، وقدرات نقل جوي، واتصالات ودعم طبي بقيمة 100 مليون دولار.

 

باختصار، لا يزال الوضع في هايتي مضطربا ومعقدا، مع وجود توترات سياسية واجتماعية تتطلب التزاما راسخا من جميع الأطراف المعنية لتحقيق انتقال سلمي وديمقراطي.

 

15/07/2024

 مرصد أمريكا اللاتينية

قراءة 386 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)
موسومة تحت