13/09/2018
كينيث روغوف*
مع انهيار تجربة فنزويلا العظيمة مع الاشتراكية "البوليفارية"، تندلع أزمة إنسانية وأزمة لاجئين أشبه بما حدث في أوروبا في العام 2015. فإلى كولومبيا وحدها، فر نحو مليون فنزويلي، مسافرين بالحافلات، والقوارب، بل وحتى على الأقدام، عبر تضاريس وعرة، وتشير التقديرات إلى وجود مليونين آخرين في دول أخرى مجاورة.
وهناك، يعيشون غالباً في ظل ظروف غير آمنة على الإطلاق مع القليل من الطعام والدواء، وينامون في أي مكان. وحتى الآن، لا توجد مخيمات لاجئين تابعة للأمم المتحدة، بل مساعدات متواضعة من منظمات دينية ومنظمات غير حكومية. ويتفشى بينهم الجوع والمرض.
بشكل عام، تبذل كولومبيا قصارى جهدها للمساعدة، فتوفر الرعاية لأولئك الذين يصلون إلى المستشفيات. ويستوعب اقتصادها غير الرسمي الضخم العديد من اللاجئين كعمال. ولكن لأن نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز نحو 6000 دولار (مقارنة بنحو 60 ألف دولار في الولايات المتحدة)، فإن موارد كولومبيا محدودة. كما يتعين على الحكومة أن تعيد بشكل عاجل إدماج نحو 25 ألفا من مقاتلي القوات المسلحة الثورية في كولومبيا وأسرهم بموجب شروط معاهدة السلام في العام 2016 والتي أنهت نصف قرن من الحرب الأهلية الوحشية.
كان الكولومبيون متعاطفين مع جيرانهم جزئياً لأن كثيرين منهم يتذكرون أن فنزويلا استوعبت أثناء تمرد القوات المسلحة الثورية في كولومبيا وما ارتبط به من حروب المخدرات مئات الآلاف من اللاجئين الكولومبيين. وعلاوة على ذلك، خلال سنوات ازدهار فنزويلا، عندما كانت أسعار النفط مرتفعة، ولم يكن النظام الاشتراكي يتسبب في تدمير الإنتاج بعد، كان عدة مئات من الكولومبيين قادرين على العثور على عمل في فنزويلا.
لكن التسونامي الأخير من اللاجئين الفنزويليين يسبب مشاكل هائلة لكولومبيا، بعيداً عن التكاليف المباشرة المرتبطة بفرض النظام، وضمان الرعاية الطبية العاجلة، وتقديم الخدمات الأخرى. وبشكل خاص، فرض تدفق العمالة الفنزويلية ضغوطاً كبيرة دفعت الأجور إلى الانخفاض في القطاع غير الرسمي في كولومبيا (بما في ذلك الزراعة، والخدمات، وشركات التصنيع الصغيرة) ــ وفي وقت حيث كانت الحكومة تأمل في رفع الحد الأدنى للأجور.
شملت الموجات الأولى من الفنزويليين العديد من العمال المهرة (على سبيل المثال، الطهاة، وسائقي الليموزين) الذين كان بوسعهم أن يأملوا بشكل معقول في العثور على عمل مجز بسرعة. لكن اللاجئين الأكثر حداثة كانوا في الغالب من غير المتعلمين وغير المهرة، الأمر الذي أدى إلى تعقيد الجهود التي تبذلها الحكومة لتحسين نصيب الطبقة الدنيا في كولومبيا.
وقد تكون المشاكل الطويلة الأجل أكثر حدة، حيث تتفشى الأمراض التي كانت تحت السيطرة، مثل الحصبة والإيدز، بين اللاجئين، الذين يختلطون بسهولة مع الكولومبيين الذين يشبهونهم ثقافيا. وفي مناسبات خاصة، يزعم القادة الكولومبيون الأكثر تطلعا، بما في ذلك الرئيس الجديد إيفان دوكي، أن المعاملة الإنسانية اللائقة للاجئين الفنزويليين سوف تعود بالفائدة على الكولومبيين في الأمد البعيد، بعد سقوط النظام وعودة فنزويلا لكي تصبح مرة أخرى واحدة من أكبر شركاء كولومبيا التجاريين. ولكن لا أحد يدري متى قد يحدث هذا.
الأمر المعلوم الآن هو أن النظام في فنزويلا أهدر بعد سنوات عديدة من السياسات الاقتصادية الكارثية، التي بدأت في عهد الرئيس الراحل هوجو شافيز واستمرت في عهد خليفته نيكولاس مادورو، ميراثاً يضم بعض أكبر الاحتياطيات المؤكدة من النفط في العالَم. وقد انهار دخل البلاد بمقدار الثلث، ويقترب التضخم من بلوغ مليون في المائة، ويتضور الملايين جوعا في بلد من المفترض أن تكون في حال طيبة كثيرا.
قد يتصور المرء أن الثورة قد تندلع، لكن مادورو كان قادراً حتى الآن على الإبقاء على المؤسسة العسكرية في صف النظام جزئياً من خلال منحها الرخصة لإدارة عمليات تهريب مخدرات هائلة الحجم تصدر الكوكايين إلى مختلف أنحاء العالَم، وخاصة أوروبا والشرق الأوسط. وعلى النقيض من صادرات النفط المثقلة بديون هائلة للصين وغيرها، فإن العائدات من الصادرات غير القانونية من المخدرات غير مثقلة بالديون بطبيعة الحال، باستثناء حالات المصادرة النادرة.
من المؤسف أن كثيرين من المنتمين إلى اليسار في مختلف أنحاء العالَم (على سبيل المثال، زعيم المعارضة البريطاني جيريمي كوربين) كانوا على استعداد لغض الطرف عن الكارثة التي كانت تختمر، ربما بسبب اندفاعهم الغريزي في الدفاع عن إخوانهم الاشتراكيين. أو ربما كان الأسوأ من ذلك أنهم يعتقدون حقا في رجاحة نموذج شافيز الاقتصادي.
في المجمل، كان العديد من الاقتصاديين من ذوي الميول اليسارية (بما في ذلك بعض الذين عملوا في نهاية المطاف في حملة السناتور بيرني ساندرز الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2016. وكان هناك أيضا انتهازيون، بما في ذلك مؤسسة جولدمان ساكس (ومشترياتها غير المدروسة التي دعمت أسعار السندات الفنزويلية)، وبعض منهم من اليمين، مثل لجنة تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي قبلت تبرعات ضخمة من سيتجو، وهي شركة تابعة لشركة النفط الفنزويلية بتروليوس دي فنزويلا وتتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، عملوا على تمكين النظام.
في الأسابيع الأخيرة، وضع مادورو خطة نصف مدروسة لتثبيت استقرار العملة، فأصدر أوراق عملة جديدة مدعومة بواسطة عملات رقمية مشفرة تصدرها الحكومة، وهذا أشبه ببناء بيت من ورق على مكب نفايات. وسواء ترسخت العملة الجديدة أو لم تترسخ، فبوسعنا أن نكون على يقين من أن المؤسسة العسكرية في فنزويلا ستستمر في إدارة عملياتها باستخدام أوراق العملة من فئة 100 دولار.
في الاستجابة للأزمات المحلية والإقليمية التي ولدها نظام مادورو، فرضت الولايات المتحدة عقوبات تجارية ومالية شديدة، ويُقال إن ترامب طرح فكرة غزو فنزويلا. ولا شك أن التدخل العسكري الأميركي فكرة مجنونة، حتى أن القادة الكثيرين في أميركا اللاتينية الراغبين في رحيل النظام لن يؤيدوا مثل هذه الفكرة أبداً.
لكن الولايات المتحدة تستطيع، بل ينبغي لها، أن تزيد إلى حد كبير من مساعداتها المالية واللوجستية لإعانة الدول المجاورة على التعامل مع مشكلة اللاجئين المربكة. وليس من السابق للأوان البدء في التخطيط لإعادة البناء وإعادة اللاجئين إلى ديارهم بعد أن تنتهي أخيراً النسخة الاشتراكية -أو بشكل أكثر دقة محسوبية النفط والكوكايين- من فنزويلا.
*أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد. كان رئيس اقتصاديي صندوق النقد الدولي من 2001 إلى 2003. آخر كتبه "لعنة الانهيار الاقتصادي".
http://alghad.com/articles/2443632-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%87%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%86%D8%B2%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A7