فورين بوليسي: الموت الحزين ليسار أميركا اللاتينية

الثلاثاء, 15 كانون1/ديسمبر 2015 14:37

وضعت الأزمات الاقتصادية والفساد ثم الاضطراب السياسي حداً لمغامرة السياسة الخارجية في دول كالبرازيل وفنزويلا، اللتين بدتا يوما مرشحتين لقيادة عصر جديد في أميركا اللاتينية، الآن، يبدو اقتصاد البلدين على شفا انهيار محتوم. تواجه الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف اجراءات عزل بسبب مزاعم بانعدام الرقابة على عملية إعداد الموازنة. ومع الهزيمة المدوية للحزب الحاكم الذي يقوده الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في انتخابات السادي من ديسمبر التشريعية، يبدو أن الطموحات الكبيرة للبلدين والتي بدأت فقط منذ عقد مضى، قد أصبحت مجرد اوهام.
في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين سعت فنزويلا والبرازيل للتخلص من الهيمنة الأمريكية التي استمرت لقرون. كان كلاً من الفنزويلي هوجو تشافيز والبرازيلي لويس اجنازيو ”لولا“ دا سيلفا في مقدمة جيل من الرؤساء الشباب في أمريكا الجنوبية. وزاد قلق المسؤولين في واشنطن، فقد بدا أن هناك مرحلة جديدة تبدأ في المنطقة ، مرحلة تتميز بعد اللاستقرار في التعاطي مع الولايات المتحدة.
اشترى تشافيز وثورته البوليفارية –نسبة إلى بطله سيمون بوليفار، قائد الاستقلال في فنزويلا- المزعومة الحلفاء بواسطة هبات النفط واستمالة الأنظمة المخادعة كإيران تحت قيادة محمود أحمدي نجاد. على العكس من ذلك، تركزت سياسة البرازيل الخارجية البرجماتية على إعادة تشكيل النظام العالمي، كما سعت أيضاً إلى إعاقة قوة الولايات المتحدة في نصف الكرة الأرضية، والأبعد من ذلك، حاولت إضفاء طابع الديمقراطية على المؤسسات المتعددة الأطراف كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، مع جعل البرازيل هي المستفيد الأول.
تلك الأحلام الأكبر من الطبيعية تغذت بوجود شخصيات بحجم كبير أيضاً مثل لولا وتشافيز. لكنهما أيضاً تمكنا من ذلك بفعل طفرة اقتصادية لا تستطيع الاستمرار، و في الواقع لم تستمر. أما خلفائهما الذين اختاروهما بأنفسهما فقد تم إجبارهم على تقليص طموحاتهم مع انهيار الأسعار العالمية. روسيف –التي لا تشرب الكحول، التكنوقراط، والرئيسة السابقة لشركة النفط المملوكة للدولة بيتروبراس- عانت كثيراً للتعافي بعدما قلت حاجة الصين للحديد البرازيلي والمنتجات الزراعية، كما لم يجد نيكولاس مادورو حلاً للتراجع الكبير في أسعار النفط.
في النهاية، على الرغم من استراتيجياتهما المختلفة، كل من البرازيل وفنزويلا أصبحتا في نفس المكانة المتواضعة، وأحلامهما الدولية السابقة أصبحت محطمة.
من البداية، حاول تشافيز أن يعيد إحياء رؤية بوليفار بتحالف كبير مع البلاد الإنديزية، ليتكون ما يطلق عليه ”كولومبيا الكبرى“ وتكون فنزويلا من ضمن التحالف، مع كولومبيا ودول أخرى. اعلن خلق التحالف البوليفاري لشعوب أمريكا (ALBA)، وتعهد بوجود عملة موحدة، والتعاون في السياسات العسكرية، وإنشاء مصرف إقليمي جديد باسم ”Banco del sur“ من اجل المساعدة في التنمية دون تلك الشروط التي يفرضها البنك الدولي و صندوق النقد.
في نفس الوقت، مع ارتفاع أسعار النفط ل100 دولا للبرميل، أصبح تشافيز زعيماً لليسار المتطرف المعارض للعولمة، وأكثر شخص مكروه من اليمين الأمريكي. وأثنى بعض الاقتصاديين البارزين كمارك ويسبروت، وبعض مشاهير هوليوود كأوليفر ستون ومايكل مور وشون بين، بسياسته الشعبوية في استخدام النفط، والتي وفقاً لها أسست الحكومة بنوك للطعام المدعم وارتفعت أرقام التوظيف الحكومية واعتبروه بديل سياسي واقتصادي ممكن للولايات المتحدة ولعقيدة واشنطن الاقتصادية التي تقوم على الإصلاحات التوافقية منذ التسعينيات.
كان تبني تشافيز لليسار بجزء ما انعكاس للاستخفاف المتبادل مع إدارة جورج دابليو بوش وبشكل آخر إيمان حقيقي –لكن مضلل بأن ثورته البوليفارية المزعومة ينجم عنها تنمية مستدامة. يتطلب التضامن مع تشافيز أن يتجاهل الشخص قضايا تقدمية مثل البيئة وحقوق المثليين، والأضرار الاقتصادية والمؤسسية الحقيقية جداً التي كان يقترفها ببلاده باعتمادها أكثر على صادرات النفط، وتضخيم عملتها، وتسييس جيشها، واعتماد النظام القضائي على حلفاء حزبيين.
أغضبت طموحات تشافيز البوليفارية المحافظين الأمريكيين. وصف تشافيز الرئيس بوش بالشيطان، ورد المسؤولون في الإدارة الأمريكية آنذاك بمحاولة إحباط المضايقات الصادرة عن المناهضين لأمريكا في نصف الكرة الغربي (مع تحالف كوبا مع كاراكاس)، وأبدت قلقها من الأيديولوجية الكبرى و النماذج العسكرية المكونة للتحالف البوليفاري (ALBA).، والذي شمل المتحمسين للانضمام لصفوفه مجموعة من الزعماء اليساريين مثل بوليفيا والإكوادور ونيكاراجوا، وكوبا، ولفترة من الوقت كان من بينهم السلفادور وهندوراس.
اقتصادياً ، في عام 2011، كان إجمالي الناتج المحلي لتلك الدول مجتمعة يعادل 14% من نسبته في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي وفعلت رؤية تشافيز القليل لتحسين ذلك. بدأت دول منطقة الكاريبي ومعها السلفادور ونيكاراجوا في الاعتماد على النفط المعطى لهم من فنزويلا بقروض ذات فائدة قليلة، وبذلت تلك الدول القليل من الجهد من أجل ايجاد مصادر أكثر استقراراً للدخل بعيداً عن النفط. في فنزويلا، عوّق اعتماد البلاد الكبير على النفط من مجالات الاقتصاد الأخرى إلى هذه الأيام، فصادرات النفط تمثل 95% من إجمالي صادرات الدولة. وفي نفس الوقت الذي تم انتهاك مخزون النفط في الدولة، أهمل الاستثمار في التكنولوجيا والتنقيب، وتقلص الانتاج من 3 مليون برميل يومياً عام 1998 إلى حوالي 2.2 إلى 2.5 مليون برميل يومياً حالياً.
لنكن متأكدين من أن تأثير أضرار تشافيز كبير وعميق. لكن حكومة تشافيز ومادورو والمشروع البوليفاري اتضح عليها أيضاعدم الكفاءة، والفساد، والجريمة، وذلك بدرجة أكبر من التماسك الأيدلوجي. اليوم، الاقتصاد البوليفي هو الأسوأ في العالم، مع توقع أن يصل الناتج المحلي إلى تراجع يصل ل10%. يعاني سكان الدولة من عجز كبير في البضائع الرئيسية مثل الأغذية المصنعة من الذرة، ومن المتوقع أن تصل معدلات التضخم إلى 200% هذا العام، وثاني أكبر معدل للقتل في العالم.
أما أصدقاء فنزويلا الإقليميين الذين طالما اعتمدوا على مساعدات فنزويلا النفطية فقد بدأوا في تغيير سياساتهم. فالرئيس البوليفي ايفو موراليس، الذي كان في وقت ما أحد أقرب أصدقاء تشافيز، قام برفض الهبات النفطية الفنزويلية منذ عام 2014. كما أن الأعضاء ال17 في اتفاقية البترو كاريبي، المجموعة التي تتلقى نفط مدعم من فنزويلا- فقد بدأوا في البحث عن حلول بديلة، مثل المصادر المتجددة للطاقة والاستثمارات الدولية في الغاز الطبيعي. حتى كوبا، التي تستقبل ألف برميل نفط يومياً من فنزويلا، فتبحث عن شركاء نفط آخرين. منذ بداية تهالك نظام كاسترو، أعادت كوبا بيع حصتها في الأسواق الدولية. لكن مع وصول الأسعار حالياً إلى 40 دولار للبرميل، وجدت هافانا أن كونها عميلاً لفنزويلاً ليس مجزياً كما كان في السابق –وهو إدراك ساهم بشكل ما في التقارب مع النظام الي كان عدواً لعقود، بالولايات المتحدة.
على العكس كان العقد الأخير من السياسة الخارجية البرازيلية أكثر برجماتية، ووسطية وانعكس ذلك على رغبة الدولة الطويلة في كسب الاحترام ونيل مقعد وسط كبار القوى العالمية.
عندما فاز حزب الرئيس لولا دا سيلفا بالانتخابات في عام 2002 بالبرازيل، تحولت تلك الأحلام إلى أهداف حزبية. وللتأكيد، على العكس من تشافيز، أسرع لولا إلى ضمان أسواق مالية ليست راديكالية على الرغم من سمعته اليسارية كزعيم عمالي. لم تكن خطاباته في درجة حماسية وسخونة جاره الفنزويلي. كانت سياسة لولا الخارجية تسعى لسحب القوة الإقليمية من الشمال المتطور. بداية من عام 2003، نصّبت البرازيل نفسها كوسيط لطموح القوى الجنوبية السياسي والاقتصادي، لكن عادة كان ذلك مع رغبة في تقليل النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الجنوبي.
بدأت البرازيل بمفاوضات منطقة التجارة الحرة للأمريكتين (FTAA) في ميامي عام 2003، والتي هدفت إلى منطقة تجارة حرة عالمية. طالبت البرازيل بحقها في تعزيز سياسة تنمية إقليمية قد تعطيها سلطة أكبر في اختيار المجالات الاقتصادية التي تتماشى مع ما تقوم بتصنيعه. طمحت البرازيل في أن تكون ممثلاً عن المصالح الاقتصادية الجنوبية في المسرح الدولي.
في عام 2010، حاولت البرازيل مع تركيا أن تتفادى العقوبات المفروضة من الأمم المتحدة على إيران بسبب برنامجها النووي، من خلال الدخول في اللحظة الاخيرة في المفاوضات مع طهران. لكن المسؤولين البرازيليين فشلوا في إقناع أعضاء مجلس الأمن بالأمم المتحدة. وفي أثناء فترة عضويتها الغير دائمة بمجلس الأمن امتنعت البرازيل عن التصويت في بعض عمليات التصويت الحاسمة بشأن ليبيا وسوريا. ورأى بعض الدبلوماسيين بالأمم المتحدة في عدم تصويت البرازيل بالرفض أو القبول على بعض القرارات بشئ أشبه بما قاله لي أحد السفراء ”القوى العالمية لا تمتنع. لديها الشجاعة لتصوّت بنعم أو لا.“
تعاني البرازيل اليوم من أزمات داخلية. بعد نمو اقتصادها بمعدل وصل إلى 4,6% بين عامي 2005 و 2008 وبنسبة 3,9% في عام 2011 بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، من المتوقع أن يهبط إلى 3% هذا العام، وهو الهبوط الأكبر منذ الطفرة ااقتصادية الكبيرة التي شهدتها البلاد.
في هذا الوقت، أسفرت التدخلات من جانب السياسة الخارجية البرازيلية عن القليل. تم العمل في الأمم المتحدة بما أضافوه على مشروع ”مسؤولية الحماية“ الذي يلزم الدول بحماية المدنيين عند تعرضها للغزو، وذلك بعد دعم من الاعضاء الغربيين بمجلس الأمن.
لا تتسم الأحلام البرازيلية بالحماسة المفرطة وعدم الكفاءة كما في فنزويلا، لكن أحلام البرازيل بقيادة تحالف يعيد تشكيل النظام العالمي تم التخلص منها، على الأقل في هذا المرحلة. سيتطلب الأمر بعض الوقت حتى تستعيد البرازيل الحماس والدعم لطموحاتها الدولية، والتي ظهرت في أقصى صورها عندما أسند تنظيم كأس العالم 2014 إليها – على الرغم من فضائح الفيفا التي تنتشر، وحتى لو كان هذا الانجاز مشبوه حالياً.
السؤال هنا، هو ما إذا كانت البرازيل مع الاضطراب الاقتصادي والسياسي، تستطيع استعادة وضعها الدولي ومصداقيتها في الدفاع عن القضايا دون استعداء واشنطن.
أهداف حكومة فنزويلا التشافيزية، وطموحها الإقليمي كانا دائماً بأيدلوجية ثورية وغير قابلة للتحقق عملياً. ارتفاع أسعار النفط سمح لكل من المغامرة وعدم الانضباط اللذين قتلاها في نهاية المطاف. انغمس تشافيز ومادورو في فساد واسع، وانتهكا البنك المركزي ونفط الدولة من أجل تمويل مشاريعهما السياسية. كما سيّسا النظام القضائي والعسكري، وفقاً للعديد من التقارير، حرضا على تهريب المخدرات من جارتهما كولومبيا عبر فنزويلا. في نوفمبر، اعتقلت الولايات المتحدة اثنين من أقارب السيدة الأولى لفنزويلا لمزاعم بتخطيطهم لتهريب الكوكايين إلى الولايات المتحدة.
فوز المعارضة الفنزولية في انتخابات 6 ديسمبر مثل رفضا شعبيا ليس فقط للفشل الاقتصادي الحكومي الكبير بل أيضاً للاحلام العابرة لحدود الوطن. سيجد الرئيس مادورو صعوبة كبيرة في الدفاع عن برنامج منح النفط للدول الأخرى في الوقت الذي لا يمكن سد حاجة البلاد من السلع الأساسية. لكن المعارضة مازالت تواجه تحديات مع محاولتها للتركيز على مساوئ الحكومة. أغلبيتها العظمى في الجمعية الوطنية توجه القليل من قوتها إلى السياسة الخارجية، ومازالت المنح الحكومية للدولة الأخرى تضمن الدعم من منظمة الدول الأمريكية والأمم المتحدة. منح النفط في مقابل تجنب النقد الدولي هو أبعد ما يكون عن طموحات الحكومة الضخمة لكن بعيداً عن التحولات السياسية في فنزويلا اليوم، سيلقى مادورو الكثير من الدعم لو استطاع توفير تلك التخليات النفطية.
أما البرازيل، فصدام الدعم الشعبي المنخفض مع التراجع الاقتصادي، وتمدد فضيحة الفساد، والاضطراب السياسي لن يضر بروسيف وحزبها فقط، بل سيمنعهما من مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها الدولة. ومع استمرار عدم الاستقرار السياسي، سيستمر الاقتصاد في الفشل مع خروج المستثمرين من البلاد.
فورين بوليسي – كريستوفر ساباتيني – ترجمة وإعداد: محمد الصباغ
15/12/2015
http://www.cairolive.com/zahma/?p=39626

قراءة 1401 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)