كان للمواقف الملفتة التي صدرت مؤخرا عن جنوب القارة الأمريكية، تجاه القضايا العربية وفلسطين، صدى واسعا في أوساط المتابعين للتحولات المتسارعة في تلك المنطقة منذ انهيار منظومة الدكتاتوريات العسكرية التي حكمت تلك البلدان بدعم من الولايات المتحدة وحلفائها الاسرائيليين، واستبدالها بمنظومة أخرى تتألف في غالبيتها من قوى المعارضة التي تعرضت للملاحقة والقمع والتنكيل طوال عقود من الزمن، دون أن تفقد قدرتها على التنظيم والتأطير والتفاعل مع الحراك الشعبي وحلفائه الطبيعيين من حركات التحرر العالم، وصولا إلى زمام الحكم .
نشأ السواد الأعظم من الأحزاب والمنظمات السياسية للتشكيلات الجديدة الحاكمة في مرحلة الحرب الباردة، وسط انتشار حركات التحرر والاستقلال في بلدان آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط ما أنشأ نوعا من التعاطف والتضامن الواضح فيما بينها، تجسد بعضها في مواقف كوبا المبكرة من القضية الفلسطينية وطرد السفير الاسرائيلي في بداية السبعينييات، ثم تبعتها في ذلك نيكاراغوا مع انتصار الثورة الساندينية، وقد تميز هذا القرار الاخير بانطلاقه ولو جزئيا من مصلحة وطنية ذاتية نبعت من دعم الاسرائيليين المطلق بالعتاد والسلاح والخبراء لدكتاتورية سوموزا حتى سقوطه.
ثم أخذت هذه الدائرة من التفاعلات الداخلية تتسع وتتخذ أبعادا مشابهة بعد محاولة الانقلاب التي تعرض لها الرئيس الفنزويلي الراحل أوغو تشافيس في نيسان أبريل من عام 2002، حين ثبت له تورط تل أبيب في تلك المحاولة، فأقفل السفارة الاسرائيلية ضمن أجواء التضامن مع فلسطين، ثم تبع ذلك قرارالرئيس الحالي إيفو موراليس بطرد السفير الاسرائيلي احتجاجا على اعتداءات اسرائيلية مشابهة، ولكن بعد تيقنه من تورط الاستخبارات الاسرائيلية وعملائها في محاولة الانفصال التي شهدتها بوليفيا في تلك المرحلة.
تنطبق هذه الرؤية لتوافق المصالح المشتركة تجاه الموقف من تل أبيب على جوانب سياسية أخرى تتمثل في الانتماءات الاجتماعية للأحزاب السياسية المتصارعة على السلطة في تلك المنطقة، فإذا أخذنا بالاعتبار أن الفئات المهمشة والمحرومة من منظومة القوى التي تسلمت زمام الحكم في المنطقة أصبحت أكثر التزاما بقضايا المواجهة مع القوى المحلية المعادية لها وعلاقاتها الاقتصادية العضوية مع الولايات المتحدة وحلفائها، ندرك منطقية تنامي التظاهرات الشعبية المؤيدة لفلسطين، وانعكاساتها على المواقف الرسمية لتلك الدول، التي اتجهت نحو تعميق علاقاتها مع الدول العربية عبر السياسة والاقتصاد.
وقد ظهرت في هذا الاتجاه مجموعة من المبادرات الحسية الملموسة والتي لم تقتصر على زيارات قام بها الرئيس أوغو تشسافيس وغيره من رؤساء المنطقة إلى عدد من الدول العربية النفطية وغير النفطية، بل وتعدت ذلك إلى إقامة مؤتمرات لرجال الأعمال العرب واللاتينيين عقدت في عواصم من المنطقتين، كما أقيمت مؤتمرات ومنتديات مشابهة لما اتفق على تسميته بالبرلمانيين اللاتينيين من ذوي الأصول العربية، بالاضافة إلى التفاعل مع مؤسسات الجاليات العربية والفلسطينية الفاعلة في القارة والتي يعرف من أبرزها اتحاد المؤسسات العربية (الفيآراب).
ربما كان لتنسيق المواقف السياسية في المحافل الدولية دورا خجولا يتوافق مع المساعي الهادفة إلى تعزيز الروابط الاقتصادية بينها، وقد ساهم في المسألتين تعارض في الوجهة السياسية للمنطقتين، فالدول العربية الغنية بمصادر النفط تدور في الفلك الاقتصادي الأمريكي بينما تسعى دول أمريكا اللاتينية في منظومتها الجديدة إلى تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال التحرر من التبعية التقليدية للشركات والبنوك الدولية الكبرى التي كانت وما زالت في كثير من الحالات تسيطر على السواد الأعظم من المقدرات المالية والاقتصادية للمنطقة.
قد يشكل هذا التعارض في الوجهات السياسية والاقتصادية العائق الأبرز أمام تطوير العلاقات المشتركة والتأثير المتبادل بين المنطقتين، مع أن التشابه البالغ في ظروفها الاقتصادية يبقى الحافز الأبرز الذي يمكن البناء عليه لتعزيز التحالفات الدولية المناهضة لسياسات الهيمنة الاقتصادية التي استنزفت وما زالت ستنتزف الثروات الطبيعية الهائلة المتوفرة في المنطقتين، وساهمت في إفقار شعوبها وتعميق الفجوات الاقتصادية والتناقضات السياسية بين فئاتها الاجتماعية، وألحقت بأجيالها الكثير من مصائب الجهل والتنكيل والحروب الداخلية التي عاثت خرابا ولعقود مضت بين دول القارة الأمريكية وما زالت تحصد أرواح مئات الآلاف من المواطنين العرب في معارك وحروب عبثية.
كما ساهم بالتراجع العضوي الحاصل في العلاقة بين المنطقتين والتأثير المتبادل بينها ما أصاب الأحزاب والحركات القومية واليسارية والوطنية من نكسات متتالية منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم تعاقب الانهيارات التي تعرضت لها بعد انتهاء الحرب الباردة وحروب الخليج الأولى والثانية وتعاظم الدور الأمريكي في مرحلة استفراد القطب الواحد، وما تبع ذلك من حملات تصفية شلّت أركان السواد الأعظم من تلك الأحزاب، بل وجعلت الكثير من كوادرها ينخرطون في العمل السياسي ضمن أحزاب أصولية وأخرى علمانية ليبرالية ويوجهون طاقاتهم في الاتجاه المعاكس.
نرى في المقابل أن المنظومة السياسية الحاكمة في جنوب القارة، تتجه نحو تعزيز تحالفاتها الاقتصادية من خلال مجموعة من المؤسسات القارية البعيدة عن الولايات المتحدة كما هو حال "الميركو سور" و"السيلاك" و"الألبا" وغيرها من التجمعات الهادفة إلى تعزيز التمنية والتكامل الاقتصادي والسياسي بين تلك الدول، كما نرى على المستوى الخارجي أنها أخذت تنوع في علاقاتها الاقتصادية الخارجية بعيدا عن روابطها التقليدية مع الولايات المتحدة وأوروبا وذلك بتطوير صفقاتها التجارية والصناعية مع روسيا والصين وغيرها من الدول التي أقامت معها تجمعات من نوع جديد كمجموعة البريكس وغيرها، ما يشكل مزيدا من التباعد النسبي في الوجهة بين المنطقتين.
تساهم في التفاعلات الجارية بين المنطقتين مجموعة من العناصر الأخرى والتي تنطلق من الظروف الذاتية الواعدة في جنوب القارة الجديدة، فعلى المستوى الاقتصادي نلاحظ مزيدا من الاستثمارات المالية والبشرية العربية في المنطقة،وذلك نتيجة تنامي الأوضاع الاقتصادية الواعدة هناك مقابل تراجع الظروف الأمنية في بلادنا، ورغم انحسار هذه الاستثمارات في المجالات التجارية وأسواق السلع وحدها، إلا أن حضورها البشري، رغم عدم تنظيمه الفاعل، يشكل عاملا مساعدا في تقارب المواقف اللاتينية تجاه القضايا العربية، ولا يقتصر ذلك على نشطاء الجاليات العربية فحسب بل وتحوّل تجمعات المهاجرين إلى جزء من مخزون الاستقطاب الحزبي في الحراك السياسي الداخلي لتلك البلدان.
رغم ذلك لا بد من الاشارة في المقابل إلى أن الاستثمارات الأمريكية والاسرائيلية ما زالت تحتل المرتبة الأولى في تلك البلدان، وهي على خلاف الاستثمارات التجارية الخجولة للجاليات العربية في المنطقة، تعتمد في عملها على المصارف والشركات الصناعية الكبرى، بل وتشكل في بعضها عمادا أساسيا في الصناعة والتجارة الاقليمية والدولية، كما هو حال الصناعات العسكرية الاسرائيلية في كولومبيا التي قد تعتبر الصناعة الأبرز في البلد بل ومن الأنشط في المنطقة، لما تمثله تجارة الأسلحة من تأثير اقتصادي وسياسي على مسار الأحداث السياسية في العالم.
إلا أن انحسار النزاعات العسكرية والحروب الداخلية التي كانت تشهدها كولومبيا وعدد من بلدان أمريكا الوسطى وتوقف النزاعات العسكرية الحدودية بين بلدان أمريكا الجنوبية، مترافقا مع غياب شبح الحرب، إلى جانب نهوض التنمية الاقتصادية أخذ يساهم في تراجع النفوذ الأمريكي والاسرائيلي معا، مقابل التحسن في أداء التفاعل البشري الذي تسجله التحالفات الشعبية مع ذوي المصالح المشتركة من أبناء المنطقتين، وفي طليعتهم نشطاء الجاليات العربية الذين تحولوا إلى مواطنين لاتينيين من أصول عربية بامتياز.