أميركا اللاتينية والقضية الفلسطينية: نحو تآكل الثوابت التاريخية

الأربعاء, 09 كانون2/يناير 2019 16:21


palestine flag

 

في مسعى منها للتأكيد على رعايتها للقضية الفلسطينية، اختارت بعض دول القارة اللاتينية توقيت بالغ الدلالة والحساسية للإعلان عن استمرار دعمها للفلسطينيين، حينما أكدت في خضم الأزمة المتفاقمة بين واشنطن وتل أبيب من جهة، والفلسطينيين لتمرير ما عرف إعلاميا بـ «صفقة القرن» فضلاً عن اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة للدولة اليهودية. حيث اعتراف الرئيس الكولومبي المنتهى ولايته «خوان مانويل سانتوس» بفلسطين كدولة حرة مستقلة ذات سيادة.

واتخذ الرئيس الكولومبي «خوان مانويل سانتوس» خطوة سرية قبل نهاية ولايته بأربعة أيام من دون علم إسرائيل، لتصبح كولومبيا الدولة رقم 137 من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة التي تعترف بما يسمى «دولة فلسطين» وهي الأخيرة التي تعترف بفلسطين كدولة في أميركا الجنوبية.

إلى جانب هذا التضامن، ورغم الأزمة الاقتصادية والتشظي السياسي الذي تعيشه نيكارجوا، فقد ندد الرئيس دانييل أورتيجا بالمجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في مايو الماضي ضد أهالي قطاع غزة، وذهب ضحيتها عشرات القتلى من الفلسطينيين.
والواقع أن موقف كولومبيا ونيكارجوا ليس جديداً من القارة اللاتينية إزاء القضايا العربية، فثمة حرص تاريخي من القارة الجنوبية على تعزيز التعاون السياسي مع قضايا العالم العربي، وفي الصدارة منها القضية الفلسطينية التي كانت وما زالت الملف العربي الوحيد الحاضر لدى الرأي العام في أميركا اللاتينية، في الوقت الذي شهدت فيه الكثير من الدول اللاتينية حركات تحرر مسلحة اتخذت الكفاح الفلسطيني نموذجًا يقتدى به، بينما كانت الأنظمة العسكرية الحاكمة في السبعينات والثمانينات تميل إلى (إسرائيل) إلا أن هذه المواقف تبدلت بعد مجيء مع صعود التيارات اليسارية إلى سدة السلطة، كالبرازيل وفنزويلا وبوليفيا والإكوادور.
والأرجح أن القارة اللاتينية كانت أكثر جرأة في دعم القضية الفلسطينية، ففي العام 2010 فتحت البرازيل الباب واسعاً أمام الحكومات اللاتينية للاعتراف بالدولة الفلسطينية داخل حدود 67 وعاصمتها القدس، وفي العام 2012 دعمت لحاق فلسطين بمنظمة اليونسكو. وواصلت دعمها للقضية الفلسطينية حين صوتت في العام 2014 لمصلحة حصول فلسطيني على صفة عضو غير مراقب في الأمم المتحدة.


ولم تكن المواقف اللاتينية السابقة هي الأولى من نوعها، فقد ساندت الدول اللاتينية الحقوق العربية المشروعة. فغالبية دول أميركا اللاتينية تصوت دوما سواء في الجمعية العمومية أو في مجلس الأمن لمصلحة القرارات العربية بل وقضايا المنطقة، ويكفى أن نشير هنا إلى موقف البرازيل الذي أدان بشدة الاعتداء الإسرائيلي على قافلة الحرية نهاية شهر مايو 2010، واعتبره الرئيس البرازيلي جريمة بشعة. كما أبدت نيكاراجوا اعتراضها على السياسية الإسرائيلية القمعية، بل وصل الأمر إلى حد قطع علاقاتها مع إسرائيل مؤخرا على خلفية الاعتداء على القافلة مرمرة، فضلا عن فنزويلا وبوليفيا اللتان قطعتا علاقاتهما بإسرائيل بنهاية العام 2008 إضافة إلى كوبا الرافضة لإقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الإسرائيلى منذ العام 1973.

والواقع أن التحرك نحو اليسار في أميركا اللاتينية ظل يعني ضمنياً وبالضرورة رفض السياسات اليمينية الإسرائيلية، سواء في مجال التوسع الاستيطاني على حساب الأراضي الفلسطينية المصادرة أو المغتصبة، أو في مجال ممارسات القمع والاعتقال والتشريد والتمييز الإفقار بحق الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه الأساسية والوطنية المشروعة، كما أن هذا التحول نحو اليسار يعني الانحياز إلى خيار دعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل إنجاز مهمة التحرر الوطني وصولاً إلى ممارسة الحق في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، خاصة في ضوء العلاقات التاريخية الوثيقة بين العديد من هذه القوى اليسارية في بلدان أميركا اللاتينية وبين العديد من فصائل الثورة الفلسطينية منذ انطلاق الثورة الفلسطينية قبل أكثر من خمسة عقود، ودعم من ذلك التحول في مواقف الحكومات اليسارية الجديدة في أميركا اللاتينية إزاء القضية الفلسطينية التوجهات اليمينية المتصاعدة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على مدى العقد ونيف الأخير من الزمان.
وكان من جملة المواقف الجديدة للحكومات الديمقراطية اليسارية الصاعدة في بلدان أميركا اللاتينية المعادية للسياسات الأميركية التوجه نحو تبني مواقف قوية منحازة للحق الفلسطيني وفي مواجهات السياسات والممارسات الإسرائيلية، ليس فقط لأن إسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة، ولكن لأن إسرائيل كانت قد ورطت نفسها على مدار السنين بالانجرار، بل بالانغماس، في المشاركة في تخطيط وتنفيذ السياسات الأميركية في القارة اللاتينية بكل ما حملته تلك السياسات من اكتساب عداء شعوب تلك البلدان لإسرائيل وليس فقط للسياسات الأميركية، وهو الأمر الذي تجلى في تبني مواقف مؤيدة بلا تحفظ القضية الفلسطينية بدءًا بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 بمنح منظمة التحرير الفلسطينية صفة المراقب في الأمم المتحدة واعتبار المنظمة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ووصولاً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ، والذي منح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة.
وقد جاء انعقاد القمة العربية الأميركية الجنوبية الأولى في البرازيل سنة 2005 والثانية في الدوحة سنة 2010، وفي أعقاب مباشرة القمة العربية التي انعقدت حينذاك، ليمثل مرحلة جديدة وهامة من التشاور السياسي الجماعي بين الدول العربية ودول أميركا اللاتينية، خاصة ما صدر عن القمة من إعلانات حملت بشائر للتعاون والتنسيق بشكل جماعي بين البلدان المنتمية للمجموعتين، كما كان من أهم ما تحقق هو الاتفاق على دورية انعقاد هذه القمة كل عامين بالتناوب بين الإقليمين، وهو الأمر الذي يظهر الواقعية في التوقعات حيث أن النص مثلاً على انعقاد القمة كل عام كان سيتسم بالمبالغة في التوقعات دون الاستناد إلى أهمية الإعداد الجيد لهذه القمم على الأرض، وبالفعل انعقدت القمة العربية الأميركية اللاتينية الثالثة في العاصمة البيروانية ليما في عام 2012، وجاءت القمة الرابعة في الرياض 2015، والأمل معقود ليس فقط على انتظام انعقاد هذه القمم بشكل منتظم ودوري، ولكن أيضاً على تحقيق نتائج ملموسة لهذه القمم في شكل مشاريع مشتركة وبرامج تتشارك فيها كافة الدول المنتمية للمجموعتين أو حتى بعض الدول المتشابهة الأفكار والمصالح على أن تكون من المجموعتين.

 

دعم تاريخى للقضية الفلسطينية
كانت الدول اللاتينية احد أهم الداعمين تاريخياً للقضية الفلسطينية، وفي الصدارة منها كوبا التي بدأت دعمها هذا بقطع علاقتها مع إسرائيل عام 1972، كرفض لاحتلالها الضفة الغربية وغزة وهضبة الجولان، بجانب الأرجنتين في الستينيات، والسلفادور.

وعندما وصل الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز إلى الحكم، خاطب العالم من على منصة الأمم المتحدة مدافعًا عن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، حتى إنه قال في مقولة مهمة وتاريخية: «أشعر أن دمى عربي».
وبعد حرب 1973، زادت دول أميركا اللاتينية التي تتخذ منعطفًا إيجابيًا نحو الفلسطينيين، فيما ظلت بعض الدول الأخرى- الأكثر ارتباطًا بالولايات المتحدة مثل المكسيك وكولومبيا- على ردود فعلها الصامتة، ما يعكس أن الدول المستقلة حديثًا عن السياسة الخارجية الأميركية كانت مواقفها معارضة لإسرائيل.
وأسهمت المنظمات الإقليمية الجديدة، مثل «اتحاد دول أميركا الجنوبية»، و«مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبى»، التي لا تشمل الولايات المتحدة، في جعل أميركا اللاتينية صوتًا قياديًا.
وخلال السنوات الأخيرة وأثناء حروب غزة، اتخذت معظم دول أميركا اللاتينية مواقف معارضة لإسرائيل، ففى 2009 تحديدًا بدت أميركا اللاتينية أكثر مناطق العالم التي تأتى منها أصوات الإدانة للعدوان الإسرائيلي على غزة.
وتوالت الإدانات اللاتينية لإسرائيل أثناء حروب غزة، وبلغت مداها في حرب غزة الأخيرة عام 2014، فصدرت تصريحات وبيانات إدانة شديدة اللهجة من حكومات الأرجنتين والمكسيك ونيكاراجوا وأوروجواى، فيما استدعت كل من البرازيل وتشيلي والإكوادور وبيرو سفراءها في تل أبيب.
وخرجت إلى شوارع وميادين بلدان أميركا اللاتينية مظاهرات ومسيرات، تضامنًا مع غزة والقضية الفلسطينية في الأرجنتين والبرازيل وكولومبيا وكوستاريكا والسلفادور والمكسيك ونيكاراجوا وبنما وفنزويلا، وهو الخطر الذي أدركه نتنياهو وجعله يضع أميركا اللاتينية على قائمة أهدافه الدبلوماسية.


دلالات الاهتمام
ثمة دلالات كاشفة عن دعم العالم اللاتيني للقضية الفلسطينية، وبخاصة الاعتراف الكولومبي، وإدانة رئيس نيكارجوا وفنزويلا مؤخراً سياسات القمع والتصفية ضد الفلسطينيين.
أول هذه الدلالات، أن اعتراف كولومبيا ودعم ونيكارجوا مؤخرا للقضية الفلسطينية، هو محاولة للتنبيه إلى ما قد يفضى إليه الإصرار على صيغة ظالمة للفلسطينيين بعد قرار الإدارة الأميركية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والاستهانة بعواقب هذا القرار تجاه قضية يتفق أغلبية ساحقة من البشر في كل مكان على أنها عادلة.
والدلالة الثانية أن مواقف الدول اللاتينية لا تنظر إلى الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني على أنه صراع ديني، وإنما هو صراع وجود ومواطنة.
خلف ما سبق، يعكس موقف أميركا اللاتينية المؤيد للقضية الفلسطينية حدوث تغيرات جذرية في توجهات دولها التي لعبت دوراً لا يمكن إنكاره في ترسيخ الكيان «الإسرائيلي» في الأمم المتحدة؛ حيث كان تأييد هذه الدول لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، المعروف باسم قرار تقسيم فلسطين والصادر في 29 نوفمبر 1947، حاسماً في قبول عضوية «إسرائيل» في الأمم المتحدة، خاصة أن دول أميركا اللاتينية كانت تشكل أكثر من ثلث عضوية الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر عام 1947، وقد صوّتت أغلبية هذه الدول لصالح قرار التقسيم (13 دولة)، هي: بوليفيا، البرازيل، كوستاريكا، جمهورية الدومينيكان، الإكوادور، غواتيمالا، هايتي، نيكاراغوا، بنما، باراغواي، بيرو، أوروغواي، وفنزويلا. وصوّتت دولة واحدة ضده، هي: كوبا. وامتنعت (6) دول عن التصويت، هي: الأرجنتين، شيلي، كولومبيا، السلفادور، الهندوراس، والمكسيك.
ومثلما قامت أغلبية دول أميركا اللاتينية بالتصويت لصالح قرار تقسيم فلسطين، فإنها جميعاً قامت من دون استثناء، بالاعتراف بدولة «إسرائيل»، وإن شهدت السنوات التالية قطع العلاقات الدبلوماسية بين «إسرائيل» وكل من بوليفيا، وكوبا، وفنزويلا.
أما الدلالة الرابعة فتبدو كاشفة عن توافر بيئة خصبة لاستمرار شتل بذور التقارب بين العالم والقارة اللاتينية، وساهم التقارب العربي مع أميركا اللاتينية في اتخاذها مواقف داعمة للقضية الفلسطينية، وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين الدول العربية وأميركا اللاتينية من حوالي 6 مليارات دولار عام 2005 إلى أكثر من 33 مليار دولار عام2017 .
وكان وجود جاليات عربية نشطة في العديد من دول أميركا اللاتينية عاملاً مهماً في إحداث نوع من التراجع في تأييد هذه الدول ل«إسرائيل»، فهناك تواجد قوي لمواطنين من أصول عربية في أميركا اللاتينية، يبلغ حوالي 25 مليون مواطن، يوجد 12 مليوناً منهم في البرازيل، معظمهم من أصول لبنانية وسورية، وذلك في مقابل أقل من 96 ألف يهودي في البرازيل. كما تشير بعض التقديرات إلى أن عدد المواطنين من ذوي أصول فلسطينية في شيلي يبلغ 400 ألف مواطن، في مقابل 30 ألف يهودي، وفي الأرجنتين، هناك 3.5 مليون مواطن من أصول عربية في مقابل 182 ألف يهودي. وهو الأمر الذي يؤثر بلا شك في مواقف حكومات تلك الدول من «إسرائيل»، بصرف النظر عن توجهاتها السياسية، يمينية كانت أم يسارية. أضف إلى ذلك اعتناق أغلبية مواطني دول أميركا اللاتينية للعقيدة الكاثوليكية، وهو ما مثل دافعاً قوياً لتلك لإتباع مواقف بابا الفاتيكان في بعض الشؤون الدولية، وإصغائها إلى آرائه من القضية الفلسطينية والقدس بصفة خاصة.
وعلى ضوء ما سبق لم يكن من المستغرب، رفض عدد معتبر من دول أميركا اللاتينية (الإكوادور- كوبا- الأرجنتين- تشيلي- بوليفيا- نيكارجوا) كافة قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة، بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وإعلانه الاعتراف بالمدينة المحتلة عاصمة إسرائيل، محذرة من عواقب تلك الإجراءات وتهديدها لأمن واستقرار الشرق الأوسط بأكمله استقبال كراكاس للرئيس الفلسطيني محمود عباس في مايو 2018، وتأكيد استمرار الدعم للقضية الفلسطينية.

 

تحديات الدعم اللاتينية
برغم المواقف التاريخية الايجابية بجوار تطور مواقف دول لاتينية جديدة تجاه التفاعل مع حقوق الشعب الفلسطيني، وفى الصدارة منها كولومبيا إلا أن ثمة تراجع لا تخطئه عين فى مواقف بعض الدول اللاتينية التي أضحت أكثر انحيازاً للسياسات الإسرائيلية.
فبعد قرار إدارة ترامب في ديسمبر 2017 نقل السفارة الأميركية من «تل أبيب» إلى «القدس»، نقلت دولة جواتيمالا سفارتها إلى المدينة المحتلة، ، وكذلك حذت باراجواي نهج جواتيمالا، ونقلت سفارتها إلى «القدس»، بالتزامن مع تقارير إخبارية إسبانية عن اعتزام دولة «هندوراس» اتخاذ نفس الخطوة.
وتطرح تلك المواقف العديد من التساؤلات حول سبب إقدام 3 دول من أميركا اللاتينية على تلك الخطوة، وما الذي يجمع إسرائيل بتلك المنطقة لتسارع دولها بنقل سفاراتها إلى القدس؟. وتثير أيضًا العديد من علامات الاستفهام حول «الإغراءات» التي قدمها رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو لتلك الدول، خلال الفترة الأخيرة، تمكن خلالها من كسب ودها، خاصة بعد أن صوتت 10 دول «لاتينية» ضد القرار الأمريكي في الأمم المتحدة، فيما انحازت له دولتان فقط.


وتتمثل أهم التحديات فيما يلي:


انحسار نفوذ اليسار في المنطقة
مرت علاقة دول أميركا اللاتينية مع الفلسطينيين وقضيتهم بمنعطفات تاريخية واضحة خلال خمس عقود، بدأت بالتقارب والدعم فى ظل حكومات اليسار، وانتهت إلى نقل سفاراتها إلى «القدس»، فى ظل حكومات يمينية صعدت منذ عامين، بهدف إرضاء الولايات المتحدة التى تعتبر أميركا اللاتينية بمثابة «فنائها الخلفي».
وفى حين كانت الحكومات اليسارية أكثر تعاطفًا نحو الفلسطينيين، فإن الحكومات اليمينية بدأت عصرًا جديدًا مع إسرائيل، تزامنًا مع تعزيزها علاقاتها مع واشنطن، والضغط على الحركات الشعبية اللاتينية التي تؤيد الفلسطينيين وتدعم المقاطعة وسحب الاستثمارات من الدولة العبرية. وتمكن اليمين قبل عامين من تحقيق انتصارات انتخابية عديدة في أرجاء أميركا اللاتينية، وهو ما انعكس في اتجاهات تلك الدول نحو إسرائيل. وقد يشهد حضور القضية الفلسطينية تراجعاً على خلفية صعود الرئيس اليميني المتطرف بولسونارو إلى سدة السلطة في البرازيل بعد فوزه بجولة الإعادة للانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد في 25 أكتوبر 2018، وتعول إسرائيل على تنفيذ بولسونارو تعهده السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة.
تجدر الإشارة إلى بولسونارو قد أعلن خلال حملته الانتخابية، أن أول جولة خارجية سيجريها حال فوزه بالانتخابات ستكون لإسرائيل، كما وعد بنقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس، وإغلاق السفارة الفلسطينية في برازيليا. وفي تصريح له قال بولسونارو أن فلسطين «ليست دولة، لذا لا ينبغي أن يكون لديها سفارة على الأراضي البرازيلية»، هذا بخلاف مزاعمه بأن نقل السفارة إلى القدس سيسهم في دفع مسيرة السلام في الشرق الأوسط.


غياب القيادات الكاريزمية وأزمة الجيل الثاني في اليسار اللاتيني:
حظيت القضية الفلسطينية بدعم واسع من قادة اليسار الأوائل في القارة الجنوبية مقابل دعم نسبي من الجيل الثاني من الرؤساء اليساريين، وهم أقل كاريزمية وقدرة على إدارة مقاليد الحكم، بالمقارنة بقادة الحركات الشعبوية الذين وصلوا إلى السلطة لأول مرة في أميركا اللاتينية منذ أكثر من عقد من الزمان. فعلى سبيل المثال، تراجع الاهتمام نسبياً بالقضية الفلسطينية في عهد كريستينا كيرشنر التي وصلت إلى السلطة في الأرجنتين عام 2007، ثم أعيد انتخابها لولاية ثانية عام 2011، استناداً إلى شعبية زوجها الرئيس الراحل «نيستور كيرشنر». وفي البرازيل، لم تحظى القضية الفلسطينية بالاهتمام الكبير من قبل «ديلما روسيف»، بالنظر إلبى تصاعد أزمات الداخل، التي انتهت بعزلها من منصبها قبل اتمام فترة ولايتها الثانية. وفي فبراير 2016، تبددت آمال الرئيس «ايفو موراليس» في بوليفيا لشغل ولاية رئاسية رابعة بعد خسارته في الاستفتاء الشعبي على تعديل الدستور. وفي فنزويلا، يواجه «نيكولاس مادورو»، مهمة صعبة من أجل مواصلة البناء على الثورة البوليفارية الشعبوية التي أطلقها الرئيس الراحل «هوجو شافيز».
وفي الواقع، أضعفت هزيمة اليسار في الأرجنتين، وفنزويلا، وبيرو، والبرازيل، وباراجواي، بشكل مؤقت، مكانة الأحزاب اليسارية في أميركا اللاتينية، والتي تمثل داعم رئيس للقضية الفلسطينية.


تطور العلاقة مع واشنطن
يظل العامل الأمريكي له تأثير واضح على التحولات السياسية الجارية في أميركا اللاتينية، خاصة مع صعود تيار اليمين في عدد معتبر من دول القارة، حيث ساهم تآكل اليسار اللاتيني لمصلحة اليمين في توثيق العلاقة مع واشنطن الحليف الأوثق للكيان الصهيوني.
صحيح أنه مع فوز «دونالد ترامب»، فإن الوضع أصبح أكثر غموضا، إذ لم يتحدث الأخير خلال حملته الانتخابية بشكل مستفيض عن توجهات سياسته الخارجية نحو أميركا اللاتينية فضلاً عن تركيزه فقط على قضايا الهجرة والسياسة التجارية، على نحو أثار قلق الكثيرين، إلا أن واشنطن استطاعت أن تعيد جانبا واسعا من النفوذ في حديقتها الخلفية، وهو ما انعكس في إحداث تحولات لاتينية مغايرة تجاه الحقوق الفلسطينية. في المقابل فأن عدد معتبر من دول أميركا اللاتينية، خاصة التي شهدت تراجعاً واضحا لليسار باتت مدفوعة بالرغبة في كسب إدارة دونالد ترامب، خاصة مع مواجهة زعمائها أزمات سياسية داخلية.
في هذا السياق العام يمكن القول أن قطاع واسع من قادة أميركا اللاتينية يتطلعون من وراء توطيد العلاقة مع إسرائيل باعتبارها أحد المداخل المهمة لكسب الولايات المتحدة، والحصول على دعمها. وعلى الرغم من أن بعض تلك الدول تتطلع إلى تقوية العلاقات مع إسرائيل، إلا أن هذا ليس محور اهتمامها الأساسي، فعلاقتها مع الولايات المتحدة هي كل هدفهم ومرادهم.


صعود التيار الإنجيلي في القارة اللاتينية
ينتشر المسيحيون الإنجيليون فى أميركا الجنوبية والوسطى، وهم يشعرون بأنهم مرتبطون بالقضية اليهودية، فالمسيحية الإنجيلية تعترف باليهود وتعتبر نفسها المُكملة لهم.
والأرجح أن التيار الإنجيلي في القارة اللاتينية لعب دوراً مهما في تعضيد وترسيخ وصول التيار اليميني للسلطة، ففي البرازيل نجح بولسونارو الكاثوليكي في بناء روابط غير مسبوقة مع الكنيسة الإنجيلية التي تحظى بنفوذ سياسي هائل في البرازيل.
وفي فنزويلا كانت الكنيسة الإنجيلية الأعلى صوتاً في إدانة توجهات الرئيس مادورو، واصطفت إلى وار المعارضة، ودعمت إجراء مفاوضات سياسية تقلص من صلاحيات الحزب الحاكم في فنزويلا عشية الأزمة التي تعيشها البلاد منذ العام 2016.
تجدر الإشارة إلى أن الكنيسة الإنجيلية لعبت تاريخياً دوراً مهما في استيعاب واستضافة اليهود عشية المحرقة النازية، وفتحت بعض دول أميركا اللاتينية أبوابها للترحيب باليهود الهاربين من النازيين.
واتخذ نائب الرئيس الأمريكى «مايك بنس»، بسبب قناعاته الإنجيلية، العديد من القرارات لصالح إسرائيل، أهمها نقل السفارة إلى القدس، الذي تم بضغط المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين.
والأرجح أن اليهود في القارة اللاتينية بدعم التيار الإنجيلي نجحوا طوال العقود التي خلت في بناء هياكل مؤسسية تعمل لمصلحة إسرائيل، من بينها «الرابطة اليهودية» في البرازيل، و«الجمعية التعاضدية اليهودية» الأرجنتينية، و«المنظمة العليا للجاليات اليهودية» في الأرجنتين، و«منظمة المجتمع اليهودي» في تشيلي.
خلاصة القول أن التأييد اللاتيني للقضية الفلسطينية مرشح للانحسار والتراجع في ظل تآكل اليسار، وصعود التيار اليميني، ولاسيما في البرازيل الدولة الأكبر في القارة، والاقتصاد الرابع عالمياً ناهيك عن توجه قطاع واسع من دول القارة نحو تعميق العلاقة مع إدارة الرئيس ترامب الذي يسعى لنسف القضية الفلسطينية، عبر صفقة القرن التي تستهدف وئد الدولة الفلسطينية، وإنهاء وجودها التاريخي.
والأرجح أن انحسار اليسار في القارة اللاتينية، وتصاعد الأزمات في الدول التي طالما حظيت القضية الفلسطينية بدعمها تاريخياً، من بينها فنزويلا ونيكارجوا إضافة إلى التغيرات السياسية التي شهدتها كوبا، وتوجهها نحو التقارب مع واشنطن كلها عوامل ألقت بظلال سلبية على موقع وموضع القضية الفلسطينية في القارة اللاتينية.

 

*باحث متخصص في شئون أميركا الجنوبية – مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

قراءة 1164 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)