حتى وقت قريب، لم يكن هناك سوى قدر من اثنين في انتظار تانيا، أولا مقبرة في الغابة الكولومبية بعد موتها في أحد اشتباكات المعارضة هناك، أو وجودها في أحد السجون الأمريكية تحت حراسة مشددة. لم يكن لديها أي شك في أنها ستفضل حينها الموت في الغابة.
تانيا مطلوبة من الانتربول لثلاث تهم الاختطاف، واستخدام سلاح ناري خلال جرائم عنف ودعم منظمة إرهابية.
في عصر هذا اليوم وصلت تانيا متأخرة بضع دقائق إلى مكان اجتماعنا المتفق عليه، وهو فندق كبير في العاصمة الكوبية هافانا. من وراء الزجاج المعتم في بهو الفندق، رأيتها تمشي واثقة الخطوة، ويرافقها حارس شخصي من مجموعة القوات المسلحة الثورية الكولومبية، والتي هي عضو فيها. ربما وظيفته هي حمايتها، أو ربما التأكد من عدم هروبها.
القوات المسلحة الثورية الكولومبية، واحدة من أقدم الجماعات المتمردة في العالم، والفرار من خدمة الجماعة ينتهي بالموت. عندما انفتح الباب الزجاجي لبهو الفندق أتت باتجاهي وهى مبتسمة، ثم سألتني "كيف سنقوم بهذا الأمر؟"
أرادت أن تعرف أي من الخمس لغات التي تتحدث بهم سيتم استخدامها في المقابلة، ثم طلبت من النادل إحضار كابتشينو. يلتف الرجال في البهو عند سماع صوت ضحكتها العالي، ليجدوا امرأة تبلغ من العمر 36 عاما بعيون ناعمة وحاجبان مسحوبان، ترتدي أقراط وفستان تزينه نقشة الزهور. ظلت يديها ترتعش خلال الساعة الأولى من مقابلتنا أثناء تدخينها. في الخلفية استمرت مباراة لكرة المضرب على التلفزيون وتانيا تحدثني عن خدعة إشعال النار في الغابة بدون خروج دخان.
كان لقائي مع تانيا أمرا من المستحيل حدوثه. فهي قد عاشت وقاتلت في الغابة، في منطقة بحجم السويد، ومعظم الوقت كانت تعتبر من الفارين من الجيش الكولومبي. أو يعتبرونها في عداد المفقودين، وأحيانا كانوا يعتقدون بأنها قد لقيت حتفها. ولكن حتى إن وجدوها، يقول خصومها أن دماغها قد تم التلاعب به، فهي لا تتحدث معهم إلا بعبارات ماركسية لا يمكنهم فهمها. كان هذا الأمر حتى نهاية عام 2012.
بعد أكثر من عشرة أعوام في الغابة، تم إرسال بعض الرسائل إلى مخيم تانيا لإبلاغها بتعليمات بمغادرة مكان اختبائها. لقد أمهلوها ستة أيام للوصول إلى ملتقى سري للمتمردين، وباتباع التعليمات التي جاء ذكرها في الرسالة. ذهبت تانيا جنبا إلى جنب مع مجموعة من رفقائها إلى أعلى الجبال، مرورا بالممرات الموحلة، والسفر ليلا، وإقامة مخيم بأوراق النخيل خلال النهار. لقد وفر الجيش الكولومبي المنزوع السلاح ممرا آمن لها وللمتمردين الباقين للخروج على مساحة خمسين كيلومترا مربعا. وكان في انتظارهم هناك طائرة هليكوبتر من الصليب الأحمر لنقلهم جوا إلى بوغوتا ثم إلى كوبا.
حين وصلت تانيا إلى هافانا بعد 10 سنوات من استخدام السيارات، وشبكة الإنترنت، والهواتف المحمولة أو أجهزة الصراف الآلي، قضتهم في طاعة تعليمات قائدها كما تعلمت ونشأت على هذا الوضع هناك، علمت أنها قد أصبحت جزءا من وفد القوات المسلحة الثورية الكولومبية رفيع المستوى المعين للتفاوض على معاهدة سلام مع الحكومة الكولومبية.
لقد تم تكليفها بدعم الوفد من خلال مهاراتها في اللغة الإنجليزية. ومنذ ذلك الحين، ظلت تترجم تصريحات الوفد، وتحدث الموقع الإلكتروني، وترسل التغريدات وتنشر بعض الأخبار على صفحة الجماعة المتمردة على الفيسبوك. ومن المرجح أن السبب الثاني لاختيارها لهذا الشأن هي أنها بمثابة الطفل المدلل للقوات المسلحة الثورية الكولومبية.
بالإضافة إلى الموت والسجن، تم الآن إضافة خيار ثالث لسيناريوهات تانيا للمستقبل، وهو السلام في كولومبيا، ووضع حد لأطول حرب أهلية في العالم، والتي بدأت قبل 50 عاما.
لقد قتل أكثر من مائتي ألف شخص منذ ذلك الحين، العديد منهم لقي مصرعه على يد القوات المسلحة الثورية الكولومبية، التي كانت مهمتها الأصلية هي الدفاع عن حقوق الفقراء.
لقد جلست القوات المسلحة الثورية الكولومبية والحكومة على طاولة المفاوضات في كوبا، الأرض المحايدة لكلا الجانبين، في نوفمبر 2012. حينها دارت المفاوضات حول ستة قضايا: الإصلاح الزراعي، نزع سلاح العصابات، تعويض الضحايا على الجانبين، وضع حد لتجارة المخدرات، الدور السياسي المستقبلي للقوات المسلحة الثورية الكولومبية والبدء في تطبيق الاتفاق. ومع ذلك لأنه لا يوجد وقف إطلاق للنار حتى الآن، فالجيش الكولومبي والقوات المسلحة الثورية الكولومبية لا يزالون في حالة حرب.
تم إيقاف بحث الانتربول عن تانيا منذ بدء المفاوضات في كوبا، لخلق نافذة صغيرة من الوقت للتحدث مع الإرهابية المطلوبة. فهناك العديد من الأسئلة التي تنتظر إجابتها.
لم يصل أي أجنبي إلى داخل صفوف قيادة القوات المسلحة الثورية الكولومبية كما توغلت تانيا، المعروفة رسميا باسم الفدائية رقم 608372. ما دوافعها للانضمام إلى القوات المسلحة الثورية الكولومبية، وهي منظمة متهمة بتهريب الكوكايين، ووضع الألغام الأرضية وتنظيم الهجمات الخطيرة، بالإضافة إلى عمليات خطف الناس من المزارعين للسياسيين مثل إنغريد بيتانكور؟
صمتت للحظة أثناء حديثها عن الحياة التي كان بإمكانها أن تحياها لو لم تنضم للجماعة ولو لم تكن جزء من ما يحدث، سيكون لديها منزل في هولندا، وثلاثة أطفال، ومهنة برجوازية. ظلت تنظر إلى بهو الفندق الذي يرمز إلى كل ما تحتقره: آلة صنع القهوة، وأكياس الفول السوداني التي تباع بأربعة دولارات، وموظف المشروبات الذي ينظر بملل إلى أحواض السمك في انتظار الزبائن. ثم أضافت: "كنت سأشعر بإحباط شديد اليوم لو كانت حياتي ستصبح هكذا".
بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من انضمامها إلى المتمردين، أحرقوا جواز سفرها في النار. فلم تعد تشعر بالحاجة لامتلاك جواز سفر. وكما تقول كانت هذه النقطة هي نهاية حياتها القديمة.
كانت هناك ثلاثة خطوات مرت بهم تانيا قبل وصولها إلى القوات المسلحة الثورية الكولومبية، أولهم أتت بالصدفة. في منتصف شهر ديسمبر عام 1997، كانت تانيا تبلغ من العمر تسعة عشر عاما. حينها كانت قد غادرت للتو محاضرة في الجامعة وتسير إلى كافتيريا في الطابق الثاني من معهد الدراسات الرومانسية في جرونينجن. وذهبت لتحضر فنجانا من القهوة ثم فتحت صحيفة الطلاب، حيث شاهدت إعلانا يبحث عن مدرسا للغة الإنجليزية في كولومبيا. لم تكن وقتها قد سافرت من قبل إلى أمريكا الجنوبية. فبدأ الأمر مثيرا لها، لذلك تقدمت بطلب الحصول على الوظيفة. وفي السفارة سألها أحد الموظفين هناك "هل تعرفين أن هناك حربا في كولومبيا؟" فأجابته بالنفي.
الخطوة الثانية أتت من خلال شعورها بالذنب. حيث كانت تانيا تعمل في كولومبيا، كمدرسة للغة الإنجليزية في مدرسة لأطفال العائلات الثرية في بيريرا، في سفوح جبال الأنديز. تانيا تقول أنها كلما نزلت إلى الشوارع ترى من لا مأوى لهم يأكلون القمامة. لقد رأت الفقراء الجوعى بالقرب من مراكز التسوق في بوغوتا. لقد كانت غالبا ما تبكي من هول ما تراه. وذات يوم أثناء ركوبها للحافلة المدرسية، رأت عائلة من السكان الأصليين للبلاد يمشون حفاة على التراب. وأشار أحد الأطفال المستقلين للحافلة على الأسرة وصاح: "! أنت فقير ونحن أغنياء" حينها شعرت تانيا بالخجل، وكان لديها العديد من الأسئلة التي تدور في ذهنها.
بعدها ذهبت إلى أستاذة للرياضيات كانت قد التقت بها في المدرسة وسألتها: "أنتم الكولومبيون ألا تشعرون بالحزن لأنكم تعيشون في بلد حيث يمتلك الناس في الشمال كل شيء في حين أن أولئك الذين يعيشون في الجنوب لا يملكون شيئا؟" حينها أجابتها الأستاذة بسؤال آخر: " أنتم الأوربيون ألا تشعرون بالحزن لامتلاككم كل شيء في حين أن البلدان الأخرى لا يملكون شيئا". لم تعرف تانيا كيف ترد على ما قالته الأستاذة. ومن هنا جاءت الخطوة الثالثة؟
بعد عام قضته في كولومبيا، عادت مرة أخرى إلى هولندا وقد اجتاحتها موجة غريبة. أعربت من خلالها عن إيمانها بضرورة إحداث تغيير وتحقيق العدالة. وتساءلت، بأي وسيلة ممكنة يمكن تحقيق هذا الأمر. لقد أجرت اتصالا مع الاشتراكيين الدولية، وبدأت في بيع الصحف اليسارية في الشوارع والاحتجاج أمام مبنى البرلمان في لاهاي، حيث نظمت مع مجموعة من النشطاء مذبحة محاكاة للاحتجاج على بناء قاعدة عسكرية أمريكية على جزيرة في البحر الكاريبي كوراساو، وأمضت ستة وعشرين ساعة في السجن. ولكن بصفتها ثورية في أوروبا، فلها خيارات محدودة. ليس من السهل أن تصنع التاريخ في بلد نظيف مثل هولندا. لقد شعرت والدتها الممرضة هانى بالقلق عليها. وكانت دائما ما تحذرها بقولها: "أنت تسيرين في الطريق الخطأ، ماذا تريدين أن تفعلي بحياتك؟"
ولكن تانيا ظلت تخبر والديها بأنها ضاقت ذرعا بالرأسمالية، التي أدت إلى وفاة الآلاف من البشر. ولكن والدها جادلها بقوله: "عليك فقط أن تنظري إلى الاتحاد السوفيتي لرؤية كيف فشلت الشيوعية". كانت تانيا متفقة مع ما قاله، ولكنها كانت مؤمنة بشيء آخر "ربما ستنجح الشيوعية في جزء آخر من العالم".
أكملت تانيا دراستها وحصلت على شهادة تخرجها، تماما كما تعودت أن تنهي دائما كل شيء بدأته. أراد والداها أن تعمل كمديرة في مصنع للحوم. ولكن تانيا كانت ما تزال تحلم بالثورة، فعادت إلى كولومبيا، حيث التقت بأستاذة الرياضيات مرة أخرى. وأخبرتها أنها لا تريد أن تكون أحد المارة المتفرجين بعد الآن. فأبلغتها الأستاذة أنها كانت عضوا في القوات المسلحة الثورية الكولومبية، وبإمكانها أن تأخذها معها إلى المتمردين. وهكذا وصلت إليهم وبدأ الأمر.
تصف تانيا الحياة اليومية في الغابة: "أنت طوال الوقت جاهز ومستعد للرحيل، وتحتوى حقيبتك على جميع ما تحتاجه، فدائما تحمل شبكة البعوض وخيمة والزى الرسمي، والملابس الداخلية والجوارب، وبطانية، واثنتين من زجاجات البنزين والأرز والفاصوليا والعدس والمعكرونة والسكر والملح والدقيق، فهناك عادة عشرين كيلوغراما من المواد الغذائية في حقيبة ظهرك، التي تزن من ثلاثين إلى خمسة وثلاثين كيلوغراما".
تبدو حال تانيا كما لو كان القطار قد تحول بها فجأة إلى مسار مختلف. يصفها ناشط من أعضاء القوات المسلحة الثورية الكولومبية في السجون الكولومبية بقوله: "تانيا هي متمرد بلا سبب". وقال عنها أحد الوزراء في الحكومة الكولومبية: "إنها إنسانة مكسورة، رهينة أيديولوجيتها". حبيبها الجديد هو جندي للقوات المسلحة الثورية الكولومبية، يقول عنها: "إنها واحدة منا ورفيقتنا". وأخيرا تقول عنها والدتها: "ستظل دوما ابنتي الحبيبة"
في مساء يوم الجمعة، وبعد بضعة أيام من اجتماعنا الأول. تسير تانيا خلال منطقة كالي أوبيسبو في القسم القديم من هافانا. الحانات مفتوحة، الموسيقى الصاخبة تملأ الشارع والناس يرتدون قمصانا وسراويل قصيرة. لا تحب تانيا الحرارة. حيث تقول أنها تفضل المناخ البارد والعاصف. اشتكت أيضا من سريرها اللين جدا، وأخبرتني أنها تنام على الأرض مع بطانية صوف في كل ليلة. تنهض تانيا في الساعة الخامسة صباحا كل يوم وتذهب للجري لمدة أربعين دقيقة. فهى ما تزال معتادة على عملها كجندية.
تصف تانيا الكاتبة الفرنسية والتي كانت لسنين طويلة مع "فارك"، الحياة اليومية في الغابة: "أنت طوال الوقت جاهز ومستعد للرحيل، وتحتوي حقيبتك على جميع ما تحتاجه، فدائما تحمل شبكة البعوض وخيمة والزي الرسمي، والملابس الداخلية والجوارب، وبطانية، وزجاجتين من زجاجات البنزين والأرز والفاصوليا والعدس والمعكرونة والسكر والملح والدقيق، فهناك عادة عشرين كيلوغراما من المواد الغذائية في حقيبة ظهرك، التي تزن من ثلاثين إلى خمسة وثلاثين كيلوغراما".
يبدو حال تانيا كما لو كان القطار قد تحول بها فجأة إلى مسار مختلف. يصفها ناشط من أعضاء القوات المسلحة الثورية الكولومبية في السجون الكولومبية بقوله: "تانيا هي متمرد بلا سبب". وقال عنها أحد الوزراء في الحكومة الكولومبية: "إنها إنسانة مكسورة، رهينة أيديولوجيتها". حبيبها الجديد هو جندي للقوات المسلحة الثورية الكولومبية، يقول عنها: "إنها واحدة منا ورفيقتنا". وأخيرا تقول عنها والدتها: "ستظل دوما ابنتي الحبيبة"
في مساء يوم الجمعة، وبعد بضعة أيام من اجتماعنا الأول. تسير تانيا خلال منطقة كالي أوبيسبو في القسم القديم من هافانا. الحانات مفتوحة، الموسيقى الصاخبة تملأ الشارع والناس يرتدون قمصانا وسراويل قصيرة. لا تحب تانيا الحرارة. حيث تقول أنها تفضل المناخ البارد والعاصف. اشتكت أيضا من سريرها اللين جدا، وأخبرتني أنها تنام على الأرض مع بطانية صوف في كل ليلة. تنهض تانيا في الساعة الخامسة صباحا كل يوم وتذهب للجري لمدة أربعين دقيقة. فهي ما تزال معتادة على عملها كجندية.
كالسياح الذين يرقصون في الشوارع، كانت تانيا تتحدث عن قتالها: "اضطررت إلى التسول إليهم ليسمحوا لي بأن أقاتل معهم" لقد كانت راغبة في التعرف على القوات المسلحة الثورية الكولومبية عن قرب.
التدريب الأساسي لها استمر ثلاثة أشهر. لقد تعلمت كيف تسمح لجسدها بالسقوط على الأرض وفتح فمها عند سماع الانفجار المقبل، لتعويض الضغط ومنع طبلة الأذن أو الرئتين من الانفجار. تعلمت كيفية صنع قنابل، وكيفية الاحتماء. السمع هو عنصر حاسم للحياة في الغابة، حيث يضطر المقاتلون إلى الاعتماد على آذانهم في الكشف عن اقتراب المروحيات والطائرات بحيث يقفون بجوار شجرة سميكة الجدار ويتصنتون السمع. تحكي تانيا عن ضياعها في الليل، وكيف أنها اضجعت على الأرض وانتظرت لمدة ست ساعات حتى الفجر. لقد أصبحت حياتها سلسلة من التجارب المخيفة، ومع كل نتيجة ناجحة تشعر بأنها قد أصبحت أقوى.
عندما ذهبت لرؤية الطبيب في هافانا، تم تشخيصها بطنين الأذن، ونصحها الطبيب بتجنب القنابل وإطلاق النار. ولكنها أجابته "لا يمكن أن أعدك بذلك".
لقد واجهت تانيا الموت من قبل. حدث ذلك في 27 مارس 2010، عندما كانت تحضر دورة للضباط في الجبال. وخلال النهار أثناء حضورهم لعدة دروس في الفلسفة الثورية السياسية والاقتصاد. نزلت للاستحمام في النهر في فترة ما بعد الظهر، وخلال المساء تم إسناد مهمة لطهي العشاء - الأرز والبطاطا - في وعاء ضخم لأربعة وخمسين من الرجال والنساء إليها. وفجأة سمعوا صوت طائرة هليكوبتر سوبر توكانو العسكرية والطائرات التي جاءت خصيصا لمحاربة مقاتلي الجماعة. فأمرهم قائد المجموعة بالتراجع.
هرعت تانيا للاضجاع في خندق كانت قد حفرته في اليوم السابق. ولكنها تذكرت الوعاء الذي استخدمته في طهي العشاء. لقد تعلمت أن لا تترك شيئا وراءها أبدا، فقفزت لتمسك الوعاء وسارعت إلى أعلى التل. ولكن سقط أحد الشباب أمام عينيها على الأرض، واستدار وهو يهمس "لا تدعيني أموت". لقد ضربوه بنيران المدافع الرشاشة. فسحبت تانيا حقيبة الإسعافات الأولية التي يحملها عادة جميع المتمردين في القوات المسلحة الثورية الكولومبية. لكنه الشاب كان قد توفي بالفعل دون أن تستطيع مساعدته. ثم بدأ القصف المقبل بعد بضع ساعات.
بعدها أرسلت تانيا رسالة فيديو تقول فيها: "إذا كان الجيش الكولومبي والحكومة الكولومبية ما زالوا يعتقدون بأنني مخطوفة ومقيدة في هذا المكان، فيجب أن يأتوا لإنقاذي وسنقوم باستقبالهم ببنادق الكلاشنيكوف والألغام والقذائف".
في الليل قامت بالتصنت على اتصالات لاسلكية بين طياري المقاتلات الأميركية وسمعت انفجار بعض القنابل تنفجر، فزاد اعتقادها بأن هذه هي النهاية، وأنها ستموت في هذا المكان. لن يكون لها قبر بتابوت تدفن فيه، بل سيختار رفقاؤها مكاناً مناسباً تحت الأشجار الكبيرة ويضعوا شاهداً لقبرها هناك، ثم تدفن للأبد في هذه الغابة.
فسارعت لتبعث برسالة فيديو لأسرتها جاء محتواها: "عيد ميلاد سعيد، أعتقد أنى أقاتل من أجل هدف نبيل. أبكي الآن كثيرا، لأنني أفتقدكم كثيرا. لكنني أعلم أيضا أن ما أفعله هو الشيء الصحيح، وأنني سأبقى هنا، ولن أترك هذا المكان".
لقد ظلت طوال هذه الفترة مشغولة، تجمع الأموال للحماية وتنظم هجمات على الحافلات وتستجوب ثلاثة متعاقدين عسكريين من الشركة الأمريكية التي قد هبطت اضطراريا في غابة بالقرب من معسكر القوات المسلحة الثورية الكولومبية. واحدا منهم قال لها: "إذا أرادت حكومتنا موتك، فستكونين ميتة في ستة أشهر".
فأجابته: "ولكنك تعلم أن أسرى الحرب هم أول من يموتون في الحرب". مثل هذه العبارات كانت هي السبب في بحث الانتربول عنها.
الانتظار كان أيضا جزءا من حياتها. جاء أصدقاء ورحلوا. صدرت أوامر لا طائل منها. كانت هناك مسيرات عبر الغابة وحكم بعض القادة الفاسدين، والمثل العليا قد بدأت في الانهيار. بدأت تانيا بالحنين إلى الوطن وافتقدت بعض الأشياء مثل الجبن، وكرة القدم والخبز. وعندما وجدت هاتفاً في إحدى المزارع، تم القبض عليها وهي تتصل بوالدتها. لقد سمعت بكاء والديها، ولكنها أخبرتهم أن حياتها تسير على ما يرام وأنها سعيدة لسماع أصواتهم مرة أخرى. ولكن تم معاقبتها على إجراء المكالمة، وقضت عشرة أيام بين تنظيف المطبخ والمرحاض، وأمروها بحفر حفرة القمامة وكتابة عشر صفحات حول ما فعلته. القوات المسلحة الثورية الكولومبية لديها قواعد صارمة، ويتم معاقبة أي هفوة. مكالمة هاتفية في الخارج أمر ممنوع تماما، لأنه يضع الفريق في خطر.
عندما هاجم الجنود معسكر المتمردين في عام 2007، وجدوا مذكرات تانيا، ودفتر مدرسي قديم مزين بقلب على واجهته. كتبت فيه، في يوم ما من شهر نوفمبر 2006: "أنا تعبت تعبت تعبت من القوات المسلحة الثورية الكولومبية. لقد تعبت من العيش مع هؤلاء الناس. تعبت من عدم وجود أي شيء لنفسي. لقد كنت في هذا القارب لمدة أربع سنوات حتى الآن. مهام الحرس، والجمباز، والأحاديث، والنقاشات والقادة الحمقى. افتقد حبيبي، أشعر أني عديمة الفائدة هنا. الدور الذي أقوم به هنا مع كاريل ممل للغاية، من المفترض أن نستعد للقيام بمهمة في المدينة، ولكن أنا أعلم أننا لن نترك الغابة. أنا عالقة هنا، ولكني لا أريد حقا أن أترك المكان. أريد فقط أن نلهو ونضحك ونحارب ونطهي وجبات الطعام من دون أي مشاكل".
من أجل أي شيء تقاتل تانيا؟ ما هي مثلها العليا؟
القصر الرئاسي السابق في هافانا، الذي كان ذات مرة مقر لحكومة الديكتاتور السابق باتيستا، هو الآن متحف للثورة. توجد بندقية هجومية قديمة أمام المبنى. حيث تقول الأسطورة أن فيدل كاسترو أطلق النار من مسدسه من الأرض وأغرق السفينة الحربية الأمريكية هيوستن، التي كانت جزءا من أسطول الاعتداء على شاطئ خيرون في عام 1961. يتزاحم السياح داخل المتحف وحول المعرض كما لو كانوا يتسابقون في دخول أحد المتنزهات. وأثناء ذلك تمشي تانيا دخل المتحف وهي تنظر إلى ثقوب الرصاص الموجودة من الماضي والتماثيل البرونزية المصغرة لكاسترو.
عصابات المقاتلين التي تنتمي إليهم تانيا هي جيوش غير مرئية. فهم يحاربون في أوقات منسية، رغم استمرار هذه الحرب التي يخوضونها على مدار نصف القرن. معظم حروب العصابات تستمر على الأكثر لعشرة أعوام، على الرغم من أن الثورة الكوبية نجحت بعد عامين فقط من قيام الحرب. ولكن الحرب في كولومبيا استمرت بالفعل لمدة خمسين عاما.
تقول تانيا عن ذلك: "لم تحن لحظة انتصارنا بعد". ثم تمشي في غرفة مخصصة لتشي غيفارا، الذي يمثل قدوتها الأولى. يوم وفاته هو يوم عطلة وطنية في كوبا، وتجد وقتها وجهه مرسوم على الملايين من القمصان.
تُعرض بندقية تشي غيفارا في صندوق زجاجي. حيث تنظر إليها تانيا وتقول: "لدينا نفس هذا السلاح، أنا هدافة جيدة في الحقيقة". للعديد من الزوار تمثل هذه المعارض والمتاحف رمز للثورة الفرنسية، ولكن بالنسبة لتانيا هي تذكير بالهدف من حياتها، فنضالها ليس متحف.
والسؤال الآن هو ماذا ستصبح عليه هذه المجموعة المتمردة من المقاتلين في المستقبل. هل سيتم النظر إليهم على أنهم أبطال مثل غيفارا، أو أنهم سيسقطون من التاريخ بصفتهم تجار المخدرات؟ كل صاروخ وكل دبابة مستخدمة من قبل الثوار يتم استخدامها في الحرب في كوبا. ماذا ستترك القوات المسلحة الثورية الكولومبية وراءها ليتذكرها به التاريخ؟. فليس لديهم أي دبابات أو سفن. شيء واحد موجود كتذكار حتى الآن وهو منشفة استخدمها مانويل مارولاندا مؤسس القوات المسلحة الثورية الكولومبية. هل تكفي هذه المنشفة لتخليد المجموعة في التاريخ! هكذا تعجبت تانيا من الأمر.
لقد كتبت تانيا كلمات أغنية على الجيتار تقول فيها: "لا أحد ييأس هنا، فنحن تملأنا الروح المعنوية الجيدة، ونحن نحارب من أجل روحنا المعنوية" إنها تريد أن تبقى مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية، حتى لو كان لديها العديد من الفرص للفرار. لأن جندي القوات المسلحة الثورية الكولومبية الذي رافقها إلى الاجتماع الأول ليس حارسها ولكنه حبيبها وصديقها الحميم. فهي يمكنها أن تتجول في المدينة وحدها، وأن تذهب إلى السفارة الهولندية في أي وقت. لكنها لا ترغب في ذلك.
وبعد بضعة أيام، ونحن نجتمع لمحادثة أخرى في بلازا فيجا في المدينة القديمة. كانت تانيا تحتسي القهوة وهي تشاهد الحمام وهو يأكل من الحصى. أثناء حديثنا انفجرت قنبلة في براديرا في غرب كولومبيا، مما أسفر عن مقتل رجل وإصابة واحد وستين آخرين. وبعد أسبوع أعلنت القوات المسلحة الثورية الكولومبية مسؤوليتها عن التفجير وقدمت اعتذارا. لعشرات من الجماعات المنشقة تحدو ادعاء الحركة بالقيام بهذا التفجير. القوات المسلحة الثورية الكولومبية لم يعد يمكنها أن تضع كل شيء تحت السيطرة. بل إنه ليس من الواضح ما إذا كان يمكنها الحفاظ على السلام الذي يجري حاليا التفاوض بشأنه في كوبا.
ومن الأسئلة :لماذا على النساء في القوات المسلحة الثورية الكولومبية إجهاض أطفالهن؟
"لأنهم جنود. الأطفال سيقومون بإبعادنا عن ساحة القتال. وقبل الانضمام إلى القوات المسلحة الثورية الكولومبية، تعرف كل امرأة أنها لا يمكن أن تصبح حاملا، ولكن إذا حدث هذا الأمر، فالأمور تتعقد كثيرا".
وسؤال آخر لماذا تضع القوات المسلحة الثورية الكولومبية الألغام الأرضية؟
"أشعر بالسوء على الأطفال الذين يموتون في التفجيرات، ولكن نحن في حرب، وعلينا أن نجد سبل الدفاع عن أنفسنا".
http://www.alwatannewspaper.ae/articles.php?n_id=347