هل يمكن للعرب استنساخ تجربة أمريكا الجنوبية في الديموقراطية؟

الأربعاء, 25 تموز/يوليو 2018 08:56

كتب العالم والمفكر الأمريكي من أصول أسيوية فوكوياما في بداية التسعينيات كتابه الشهير نهاية العالم أو الرجل الأخير The last man معبرا أن الفكر الغربي التحرري الليبرالي هو آخر ما تصبو إليه الإنسانية وأن حركة الحياة مهما تخلفت فإن صراعها نحو حياة أفضل لا يخرج عن سقف ما وصل إليه الإنسان الحديث وطبعا المشروع الليبرالي، وتعالى الغرب على ساكنة الأرض قاطبة كسيد للكون لا حياة إلا ما يحيى ولا علم إلا ما يعلم، السياسة ما يسوس هو والفكر ما يجده هو.
واستأسد الغرب على مستضعفي الأرض، من يخالفه عدو للحرية ومحور شر على شاكلة بوش الابن من ليس معي فهو ضدي فخرصت الأفواه وشلت العقول بعد سقوط حصن البروليتاريا وأفول كل فكر إنساني آخر، خرجت من قمقمها كل المنظمات الدولية والحكومية منها وغير الحكومية صباحا مساءا تصدع رؤوس أنظمة وجدت نفسها في على جرف هاري فسقوط المعسكر الشرقي والحصن الأخير لها وغياب الزعامات الكاريزماتية الملهمة والموجهة لها وانشقاق داخل البيت الواحد بين من ركن إلى ركن شديد قد جعل يده على عين وترك الأخرى ترنو ما يبشر به القادة الجدد للعالم ومن جلس يضرب كفيه غير متقبل يفتش في ماضي الزمن أين الخلل مشروعنا اجتماعي وديمقراطيتنا تجعل الناس سواسية كأسنان المشط وفلسفتنا رشدت الصراع وقوميتنا حصن مشدود.
كانت بداية التسعينيات الضربة القاصمة لأي فكر آخر بل خر كجثة لا حراك فيها أمام هذا المارد من نور، بل نجد أن صموئيل هنتجتون كان صريح في كتابه صدام الحضارات، إن البرابرة والحضارات الأخرى موقفها صدامي من الحضارة الغربية، وان المعركة القادمة هي بين الفكر الحر ومعاقل الفكر الظلامي والشمولي، فساد هذا التوجه نحو الليبرالية الجديدة وتحرير السوق على مقولة دعه يعمل دعه يمر وبدأت الدول المتحولة تحت ضغط الأزمات الاقتصادية في إعادة هيكلة بنيوية تماشيا مع هذا النفس الجديد، بدون الخوض في الكيفية، كانت بشكل تفاوضي أو تدخل خارجي أو خروج من الحكم تحت ضغوط شعبية لا نتكلم هنا عن الآلية غير أننا نتكلم على تجارب الشعوب في استقبالها للمشروع الغربي والليبرالية الجديدة.
إن تجربة التحول الديمقراطي للدول أمريكا اللاتينية والتي عبرت عبر مخاض كبير. بعد تحولها إلى النموذج الليبرالي وإعادة هيكلت البنئ الداخلية وفق شروط ومبادئ النظام العالمي الجديد لاقيت عدة مطبات حالت دون تحقيق هدفها المرجو فاستمرار التدهور الاقتصادي وانخفاض في الدخل القومي وعجز الموازنة وازدياد في نسب الفقر والبطالة كانت وراء مراجعة مجتمعية أين ارتمى شعوب المنطقة في أحضان اليساريين من جديد.
إن التجديد في الفكر الماركسي والدعوة إلى الديمقراطية التشاركية وتشجيع الاستثمار وفق القيم القومية ومراعاة حقوق العمال والكادحين وحماية الفقراء وبناء اقتصاد وفق آليات السوق الحديثة، أثرت بشكل بنيوي على الجانب الاجتماعي، تعتبر استفاقة جديدة دفعت بدول مثل البرازيل إلى أن تكون قوة اقليمية مؤثرة في المنطقة والعالم وكذلك عودة فنزويلا بحلتها الاشتراكية ورضا شعبي وباليات الديمقراطية وصناديق الاقتراع.
دأت الديناميكية من فنزويلا عام 1998 بانتخاب الشخصية المثيرة للجدل هيغو شافيز على رأس البلاد، وتلاه في يناير 2003 النقابي العمالي لولا دو سيلفا في البرازيل، ومن بعده نستور كرشنر في الأرجنتين وتابري فاسكيز في الأورغواي، انتهاء بايفو موراليس في بوليفيا، باستثناء المكسيك، أصبح اليسار حاكما في منطقة كانت إلى عهد قريب محكومة من أنظمة عسكرية استبدادية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، عرفت هذه البلدان في التسعينات برامج الإصلاح الهيكلي بإملاء من صناديق التمويل الدولية من خصخصة وسياسات ليبرالية وانفتاح على السوق العالمية، وكان من المؤمل أن تخرج من عنق الزجاجة بفضل تحقيق التوازنات الاقتصادية الكبرى، بيد أن عقد الانفتاح الليبرالي أصبح يطلق عليه العشرية الضائعة في الأدبيات السياسية المحلية، ومن المفارقات الغريبة أنه فيما انهارت الأحزاب الماركسية والاشتراكية في معاقلها التقليدية بأوروبا، وصلت التشكيلات اليسارية الراديكالية إلى السلطة في غالبية بلدان أمريكا اللاتينية عن طريق آلية التناوب الديمقراطي السلمي إلا أنه مما لا جدل فيه أن التيارات اليسارية الجديدة في أمريكا الجنوبية ارتبطت بحركة العولمة البديلة في بعدين أساسيين جوهريين هما: الخطاب المناوئ لليبرالية الرأسمالية المتوحشة ولهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي.
ففي حين كانت الحركات الاجتماعية التقليدية حاملة لمشروع وطني يرتكز على بناء دولة قومية قوية فان التيارات الاحتجاجية الجديدة تتمحور حول مطالب المجموعات المنشقة المحلية التي ترفع إما شعار التميز العرقي والثقافي والخصوصية الحضارية كما هو شأن حركات السكان الأصليين في بوليفيا والايكواتور والمكسيك، والمابوش في تشيلي والأرجنتين، أو شعار الحفاظ على البيئة ورفض النموذج الرأسمالي الأداتي لاستثمار الطبيعة وتعنيفها.
وعلى الرغم من محاولات رئيس فنزويلا شافيز إنشاء جبهة إقليمية واسعة تجمع بين هذه التيارات الاحتجاجية على اختلافها في المرجعية والتوجه، إلا أنه من الواضح أن الأمر يتعلق في الواقع بتجارب متمايزة اشد التمايز، قد يكون من الممكن التمييز داخلها بين نموذجين كبيرين:
ـ نموذج يساري إصلاحي اقرب للخط الاشتراكي الأوروبي: يستمد بعض تصوراته ومفاهيمه من نهج الخط الثالث الذي بلوره المفكر البريطاني انتوني غيدنز وتبناه حزب العمال الانجليزي في عهد رئيس الوزراء السابق توني بلير.
يقوم هذا النموذج حاليا في البرازيل، أهم بلدان المنطقة وأكثرها حضورا في الساحة الدولية، كما نجده في التشيلي والأورغواي، اللذين تحكمهما تشكيلات يسارية معتدلة ورثت الأحزاب الشيوعية السابقة.
ـ نموذج راديكالي شعبوي بنغمة ثورية عاتية: يعبر عنه أجلى تعبير خط الرئيس الراحل الفنزويلي تشافيز الذي يجمع بين نزوع قومي تقليدي ونزعة عالمية ثالثة صداميه وطموح إقليمي للتميز يقوده إلى التحالف مع كوبا كاسترو والانفتاح على الأنظمة التي تصنفها الولايات المتحدة في خانة محور الشر والعداء. ومن هنا لا يمكن الحديث عن نموذج أمريكي لاتيني منسجم، حتى لو كانت هذه التجارب على اختلافها تلتقي في خروجها على البديل الليبرالي الديمقراطي الذي أرادت الولايات المتحدة تسويقه للمنطقة.
صحيح أن الأنظمة العسكرية الدكتاتورية انهارت، وان البلدان الأمريكية الجنوبية اعتمدت الأسلوب الديمقراطي التعددي، ونظمت فيها انتخابات نزيهة وشفافة، إلا أن الديناميكية الديمقراطية حملت إلى الواجهة قوى مجتمعية وسياسية رافضة للخيار الليبرالي وللنظام الاجتماعي الذي يقوم عليه. المنوه له هنا أن هذه الدول نجحت في إعطاء درس لكل الراكعين للنموذج الغربي وتعرية الفكر الغربي بعد أن خبرته في دولها. فقد آخذت ما ينفعها وتركت ما يضر، ولم تنسلخ كليا وتنصهر، بحيث أن الأسباب النابعة من البيئة الداخلية والتي ساهمت في إحداث التحول تطغى على المحددات المرتبطة بالبيئة الخارجية فقد عرفت دولها من وسط وجنوب القارة بدءا بالمكسيك، ثم دول الكاريبي جمهورية الدومينكان، جاميكا، مرورا بأمريكا الوسطى السلفادور، هاندوراس، كوستريكا، نيكارغوا، جواتيمالا، بيليز، وصولا إلى أمريكا الجنوبية فنزويلا، كولومبيا، اكوادور، بوليفيا، البرازيل، بيرو، الأرجنتين، التشيلي، أورغواي، باراغواي، تحولات نابعة من البيئة الداخلية، ما عدا هايتي وبنما التي عرفت التحول بفعل التدخل الأمريكي.
إن التجربة الرائدة للتحول الديمقراطي للدول أمريكا اللاتينية يمكن أن نستفيد منها خاصة الدول العربية للتشابه في محددات وركائز التغيير، فقد أظهرت للعالم أجمع أن أزمة الفكر، والقطب، والنموذج الواحد انتهى وأن الحضارات الأخرى لها ما تقوله إذا فهمت واستخلصت الدروس ورجعت إلى رصيدها التاريخي غير مغيبة ورافضة إلى كل ما هو وافد بل الاستفادة من آلياته الديمقراطية وقيمه الراقية بدون انصهار وذوبان يتولد عنه تبعية واضطرابات مجتمعية، بل يرقى إلى ترقية عصرية وفق أصالة وقيم كل شعب.
عدلي مسعود
http://blogs.aljazeera.net
http://blogs.aljazeera.net/blogs/2018/7/19/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%AE-%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9

قراءة 840 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)